فصل: فصل: في عذر القائلين إنه صلى الله عليه وسلم أحرم بعُمْرة ، ثم أدخل عليها الحج

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **


فصل‏:‏ في الأغاليط التي وقع فيها بعض العلماء في عُمَر النبى صلى الله عليه وسلم

غَلِط في عُمَر النبىَّ صلى الله عليه وسلم خمسُ طوائف ‏.‏

إحداها ‏:‏ مَن قال ‏:‏ إنه اعتمر في رجب ، وهذا غلط ، فإن عُمَرَهُ مضبوطةٌ محفوظة ، لم يخرُج في رجب إلى شئ منها البتة ‏.‏

الثانية ‏:‏ مَن قال ‏:‏ إنَّه اعتمر في شوَّال ، وهذا أيضاً وهم ، والظاهر واللَّه أعلم أن بعضَ الرواة غَلِطَ في هذا ، وأنه اعتكف في شوَّال فقال ‏:‏ اعتمر في شوَّال ، لكن سياق الحديث ، وقوله ‏:‏ ‏(‏ اعتمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثلاث عُمَرٍ ‏:‏ عُمْرة في شوَّال ، وعُمْرتين في ذى القِعْدَة ‏)‏ يدل على أن عائشة ، أو مَنْ دونها ، إنما قصد العُمْرة ‏.‏

الثالثة ‏:‏ مَن قال ‏:‏ إنَّه اعتمر من التَّنعيم بعد حَجه ، وهذا لم يقُلْه أحد من أهل العلم ، وإنما يظنُّه العوام ، ومن لا خِبرة له بالسُّـنَّة ‏.‏

الرابعة ‏:‏ مَن قال ‏:‏ إنَّه لم يعتمِرْ في حَجَّته أصلاً ، والسُّـنَّة الصحيحةُ المستفيضة التي لا يُمكن ردُّها تُبطِلُ هذا القول ‏.‏

الخامسة ‏:‏ مَن قال ‏:‏ إنَّه اعتمر عُمْرة حلَّ منها ، ثم أحرم بعدها بالحج من مكة ، والأحاديث الصحيحةُ تُبطِلُ هذا القول وترده ‏.‏

فصل‏:‏ في الأوهام التي وقع فيها بعض العلماء في حج النبى صلى الله عليه وسلم

ووهم في حَجه خمسُ طوائف ‏.‏

الطائفة الأولى ‏:‏ التي قالت ‏:‏ حَجَّ حَجّاً مفرداً لم يعتمِرْ معه ‏.‏

الثانية ‏:‏ مَن قال ‏:‏ حجَّ متمتعاً تمتعاً حلَّ منه ، ثم أحرم بعده بالحج ، كما قاله القاضى أبو يعلى وغيره ‏.‏

الثالثة ‏:‏ مَن قال ‏:‏ حج متمتعاً تمتعاً لم يَحِلَّ منه لأجل سَوْق الهَدْى ، ولم يكن قارناً ، كما قاله أبو محمد بن قدامة صاحب ‏(‏ المغنى ‏)‏ وغيره ‏.‏

الرابعة ‏:‏ مَن قال ‏:‏ حجَّ قارناً قِراناً طاف له طوافين ، وسعى له سعيين ‏.‏

الخامسة ‏:‏ مَن قال ‏:‏ حجَّ حَجّاً مفرداً ، واعتمر بعده من التنعيم ‏.‏

فصل‏:‏ في الأغاليط التي وقع فيها بعض العلماء في إحرام النبى صلى الله عليه وسلم

وغلط في إحرامه خمسُ طوائف ‏.‏

إحداها ‏:‏ مَن قال ‏:‏ لبَّى بالعُمرة وحدَها ، واستمر عليها ‏.‏

الثانية ‏:‏ مَن قال ‏:‏ لبَّى بالحَجِّ وحده ، واستمر عليه ‏.‏

الثالثة ‏:‏ مَن قال ‏:‏ لبَّى بالحَجِّ مُفرداً ، ثم أدخل عليه العُمْرة ، وزعم أن ذلك خاص به ‏.‏

الرابعة ‏:‏ مَن قال ‏:‏ لبَّى بالعُمرة وحدها ، ثم أدخل عليها الحَج في ثانى الحال ‏.‏

الخامسة ‏:‏ مَن قال ‏:‏ أحرم إحراماً مطلقاً لم يعيِّن فيه نُسُكاً ، ثم عيَّنه بعد إحرامه ‏.‏

والصوابُ ‏:‏ أنه أحرم بالحَجِّ والعُمرة معاً مِنْ حين أنشأ الإحرام ، ولم يحلَّ حتى حلَّ منهما جميعاً ، فطاف لهما طوافاً واحداً ، وسعى لهما سعياً واحداً ‏.‏ وساق الهَدْى ، كما دلَّت عليه النصوصُ المستفيضة التي تواترت تواتراً يعلمُه أهلُ الحديث ‏.‏‏.‏ واللَّه أعلم ‏.‏

فصل‏:‏ في أعذار القائلين بهذه الأقوال ، وبيان منشأ الوهم والغلط

أما عُذر مَن قال ‏:‏ اعتمر في رجب ، فحديث عبد اللَّه بن عمر رضى اللَّه عنهما ، أن النبى صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب متفق عليه ‏.‏ وقد غلَّطته عائشةُ وغيرُها ، كما في ‏(‏الصحيحين ‏)‏ عن مجاهد ، قال ‏:‏ دخلتُ أنا وعُروةُ بن الزبير المسجد ، فإذا عبد اللَّه بن عمر جالساً إلى حُجْرَةِ عائشة ، وإذا ناسٌ يُصلُّون في المسجد صلاةَ الضحى ، قال ‏:‏ فسألناه عن صلاتهم ‏.‏ فقال ‏:‏ بدعة ‏.‏ ثم قُلنا له ‏:‏ كم اعتمر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ قال ‏:‏ أربعاً ‏.‏ إحداهن ‏:‏ في رجب ، فكرهنا أن نَرُدَّ عليه ‏.‏ قال ‏:‏ وسمعنا استنانَ عائشةَ أُمِّ المؤمنين في الحُجْرَةِ ، فقال عروةُ ‏:‏ يا أُمَّه أو يا أُمَّ المؤمنين ألا تسمعينَ ما يقولُ أبو عبد الرحمن ‏؟‏ قالت ‏:‏ ما يقولُ‏؟‏ قال ‏:‏ يقول ‏:‏ إنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم اعتمر أربَع عُمَرٍ ، إحداهن في رجب ‏.‏ قالت ‏:‏ يرحَمُ اللَّهُ أبا عبد الرحمن ، ما اعتمر عُمْرةً قطُّ إلا وهو شاهِدٌ ، وما اعتمر في رجب قط ‏.‏ وكذلك قال أنس ، وابنُ عباس ‏:‏ إن عُمَرَه كُلَّها كانت في ذى القِعْدة ، وهذا هو الصواب ‏.‏

فصل‏:‏ فيمن قال إنه صلى الله عليه وسلم اعتمر في شوَّال

وأما مَنْ قال ‏:‏ اعتمر في شوَّال ، فعذُره ما رواه مالك في ‏(‏ الموطأ ‏)‏ ، عن هشام بنِ عُروة ، عن أبيه ، أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، لم يعتمر إلا ثلاثاً ، إحداهُنَّ في شوَّال ، واثنتين في ذى القِعْدة ‏.‏ ولكن هذا الحديث مرسل ، وهو غلط أيضاً، إما مِن هشام ، وإما مِن عُروة أصابه فيه ما أصاب ابن عمر ‏.‏ وقد رواه أبو داود مرفوعاً عن عائشة ، وهو غلط أيضاً لا يَصِحُّ رفعُه ‏.‏ قال ابنُ عبد البر ‏:‏ وليس روايته مسنداً مما يُذكر عن مالك في صحة النقل ‏.‏ قلت ‏:‏ ويدلُّ على بطلانه عن عائشة ‏:‏ أن عائشة ، وابن عباس ، وأنسَ بنَ مالك قالوا ‏:‏ لم يعتَمِرْ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا في ذى القِعْدة ‏.‏ وهذا هو الصواب ، فإن عُمْرة الحُدَيْبِيَةِ وعُمرة القَضِيَّة ، كانتا في ذى القِعْدة ، وعُمرة القِران إنما كانت في ذى القِعْدة ، وعُمرة الجِعْرَانَة أيضاً كانت في أوَّل ذى القِعْدة ، وإنما وقع الاشتباه أنه خرج من مكة في شوَّال للقاء العدو ، وفرغ من عدوه ، وقسم غنائِمَهم ، ودخلَ مكة ليلاً معتمِراً من الجِعرانة ، وخرج منها ليلاً ، فخفيت عُمْرتُه هذه على كثير من الناس ، وكذلك قال مُحرِّشٌ الكعبىُّ ‏.‏‏.‏ واللَّه أعلم ‏.‏

فصل‏:‏ في خطأ مَن ظن أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر من التنعيم بعد الحج

وأما مَن ظن أنه اعتمر مِن التنعيم بعد الحج ، فلا أعلم له عُذراً ، فإن هذا خلافُ المعلومِ المستفيض من حَجَّته ، ولم ينقلْه أحدٌ قط ، ولا قاله إمامٌ ، ولعل ظانَّ هذا سَمِع أنه أفرد الحَجَّ ، ورأى أن كلَّ مَنْ أفرد الحَج مِن أهلِ الآفاق لا بُد له أن يخرُج بعده إلى التنعيم ، فنَزَّل حَجَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ذلك ، وهذا عينُ الغَلَطِ ‏.‏

فصل‏:‏ في عذر مَن قال إنه صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في حَجته أصلاً

وأما مَن قال ‏:‏ إنه لم يعتمرْ في حَجته أصلاً ، فعذرُه أنه لما سمع أنه أفرد الحج ، وعلم يقيناً أنه لم يَعتمِرْ بعد حَجته قال ‏:‏ إنه لم يعتمِرْ في تلك الحَجة اكتفاءً منه بالعُمْرة المتقدِّمة ، والأحاديثُ المستفيضة الصحيحة ترُدُّ قولَه كما تقدَّم من أكثر من عشرين وجهاً ، وقد قال ‏:‏ ‏(‏ هذه عمرةٌ استمتعنا بها ‏)‏ وقالت حفصة ‏:‏ ما شأن الناسِ حَلُّوا ولم تَحِلَّ أنت من عُمرتك ‏؟‏ وقال سراقة بن مالك ‏:‏ تمتَّعَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وكذلك قال ابن عمر ، وعائشة ، وعِمران بن حصين ، وابن عباس ، وصرَّح أنس ، وابن عباس ، وعائشة ، أنه اعتمر في حَجته وهى إحدى عُمَرِهِ الأربع ‏.‏

فصل‏:‏ في عذر مَن قال إنه صلى الله عليه وسلم اعتمر عُمْرة حلَّ منها

وأما مَن قال ‏:‏ إنه اعتمر عُمْرة حلَّ منها ، كما قاله القاضى أبو يعلى ومَنْ وافقه ، فعذرُهم ما صحَّ عن ابن عمر وعائشة ، وعِمرانَ بنِ حصين وغيرهم أنه صلى الله عليه وسلم تمتَّع ، وهذا يحتمِل أنه تمتُّعٌ حَلَّ منه ، ويحتمل أنه لم يَحِلَّ ، فلما أخبر معاويةُ أنه قصر عن رأسه بمِشْقَص على المروة ، وحديثه في ‏(‏ الصحيحين ‏)‏ دلَّ على أنه حَلَّ من إحرامه ، ولا يُمكنُ أن يكونَ هذا في غير حَجَّةِ الوداع ، لأن معاوية إنما أسلم بعد الفتح ، والنبىُّ صلى الله عليه وسلم لم يكن زمن الفتح مُحرِماً ، ولا يمكن أن يكون في عُمْرة الجعْرانةِ لوجهين ‏:‏

أحدهما ‏:‏ أن في بعض ألفاظ الحديثِ الصحيح ‏:‏ ‏(‏ وذلك في حَجَّته ‏)‏ ‏.‏

والثانى ‏:‏ أن في رواية النسائى بإسناد صحيح ‏:‏ ‏(‏ وذلك في أيام العشر ‏)‏ ، وهذا إنما كان في حَجته ، وحمل هؤلاء رواية مَن روى أن المتعة كانت له خاصة ، على أن طائفةً منهم خصُّوا بالتحليل من الإحرام مع سَوْق الهَدْى دون مَنْ ساق الهَدْىَ من الصحابة ، وأنكر ذلك عليهم آخرون ، منهم شيخُنا أبو العباس‏.‏ وقالوا ‏:‏ مَن تأمل الأحاديث المستفيضة الصحيحة ، تبيَّن له أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يَحِلَّ ، لا هو ولا أحدٌ ممن ساق الهَدْى ‏.‏

فصل‏:‏ في أعذار الذين وهموا في صفة حَجَّته

أما مَن قال ‏:‏ إنه حجَّ حجاً مفرداً ، لم يعتمِرْ فيه، فعذره ما في ‏(‏ الصحيحين ‏)‏ عن عائشة ، أنها قالت ‏:‏ خرجنا مَعَ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم عامَ حَجَّةِ الوداع ، فَمِنَّا مَنْ أهلَّ بعُمْرة ، ومِنَّا مَنْ أهلَّ بحَجٍّ وعُمْرة ، ومِنَّا مَنْ أهلَّ بحَج ، وأهلَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحَجِّ ‏.‏ وقالوا ‏:‏ هذا التقسيمُ والتنويع ، صريح في إهلاله بالحَجِّ وحده ‏.‏

ولمسلم عنها ‏:‏ ‏(‏أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، أهلَّ بالحَجِّ مُفرداً ‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏ صحيح البخارى ‏)‏ عن ابن عمر ‏:‏ ‏(‏أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لبَّى بالحجِّ وَحْدَهُ ‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏ صحيح مسلم ‏)‏ ، عن ابن عباس ‏:‏ ‏(‏أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أهلَّ بالحج ‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏ سنن ابن ماجه ‏)‏ ، عن جابر ‏(‏ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، أفرد الحج ‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏ صحيح مسلم ‏)‏ عنه ‏(‏ خرجنا مَعَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا نَنْوِى إلا الحَجَّ ، لسنا نعرِفُ العُمْرَةَ ‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏ صحيح البخارى ‏)‏ ، عن عُروة بن الزبير قال ‏:‏ ‏(‏حَجَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فأخبرتنى عائشةُ أنَّ أوَّل شئ بدأ به حين قَدِمَ مكة ، أنه توضَّأ ، ثم طافَ بالبيت ، ‏[‏ ثم لم تكن عُمْرَةٌ ‏]‏ ، ثم حجَّ أبو بكر رضى اللَّه عنه ، فكان أوَّل شئ بدأ به ، الطَّوَافُ بالبيت ، ثم لم تكُن عُمرةٌ ، ثم عُمَرُ رضى اللَّه عنه مِثلُ ذلك ، ثم حجَّ عُثمانُ ، فرأيتُه أوَّلُ شئ بدأ به الطُوافُ بالبَيْتِ ، ثم لم تَكُن عُمرةٌ ، ثم مُعاوية ، وعبد اللَّه بنُ عمر ، ثم حججتُ مع أبي ‏:‏ الزبيرِ بن العوّام ، فكان أوَّل شئ بدأ به الطواف بالبيت ، ثم لم تَكُن عُمرةُ ، ثم رأيتُ فعل ذلك ابنُ عمر ، ثم لم ينقُضْها عُمْرَةً ، وهذا ابن عُمر عندهم ، فلا يسألُونَه ولا أحد ممن مَضَى ما كانُوا يبدؤون بشئ حين يَضَعُون أقدامهم أوَّلَ من الطَّواف بالبيت ، ثم لا يَحِلُّون ، وقد رأيتُ أُمى وخالتى حين تَقْدَمَانِ ، لا تبدآن بشئ أوَّل مِن البَيْتِ تطُوفان به ، ثم إنهما لا تَحِلاَّنِ ، وقد أخبرتنى أُمِّى أنها أهلَّت هي وأُختُها والزُبيرُ ، وفلانٌ ، وفلانٌ بعُمْرة ، فلما مسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا‏.‏‏)‏

وفى ‏(‏ سنن أبي داود ‏)‏ ‏:‏ حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، ووُهَيْبُ بنُ خالد ، كلاهما عن هشام بن عُروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت ‏(‏ خرجْنَا مع رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم مُوَافِين لِهلالِ ذىِ الحِجَّة ، فلما كان بذى الحُليفةِ قال‏:‏ ‏(‏مَنْ شَاءَ أَنْ يُهلَّ بحَجٍّ فَلْيُهِلَّ ، ومَنْ أرادَ أَنْ يُهِلَّ بعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ بعُمْرَةِ‏)‏ ، ثم انفرد وُهَيْب في حديثه بأن قال عنه صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ فإنِّى لولا أنِّى أَهْدَيْتُ ، لأَهْلَلْتُ بعُمْرَةٍ ‏)‏ ‏.‏ وقال الآخر ‏:‏ ‏(‏ وأَمَّا أنا فأُهِلُّ بالحَجِّ ‏)‏ ‏.‏ فصحَّ بمجموع الروايتين ، أنه أهلَّ بالحَجِّ مفرداً ‏.‏

فأرباب هذا القولِ عذرُهم ظاهر كما ترى ، ولكن ما عذرُهم في حُكمه وخبره الذي حكم به على نفسه ، وأخبر عنها بقوله ‏:‏ ‏(‏ سُقتُ الهَدْىَ وقرنت ‏)‏ ، وخبر مَن هو تحت بطن ناقته ، وأقربُ إليه حينئذ من غيره ، فهو من أصدق الناس يسمعهُ يقول ‏:‏ ‏(‏ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وعُمْرَةٍ ‏)‏ ، وخبر مَنْ هو مِنْ أعلم النَّاسِ عنه صلى اللَّه عليه وسلم ، علىُّ بن أبي طالب رضى اللَّه عنه ، حين يُخبر أنه أهلَّ بهما جميعاً ، ولبَّى بهما جميعاً ، وخبرُ زوجته حفصةَ في تقريره لها على أنه معتمِرٌ بعُمرة لم يَحِلَّ منها ، فلم يُنْكِرْ ذلك عليها ، بل صدَّقها ، وأجابها بأنه مع ذلك حاج ، وهو صلى اللَّه عليه وسلم لا يُقِرُّ على باطل يسمعُه أصلاً ، بل يُنْكرُه ، وما عذرهم عن خبره صلى اللَّه عليه وسلم عن نفسه بالوحى الذي جاءه من ربه ، يأمُره فيه أن يُهِلَّ بحَجَّةٍ في عُمْرَةٍ ، وما عذرهم عن خبر مَن أخبر عنه من أصحابه ، أنه قرن ، لأنه علم أنه لا يحُجُّ بعدها ، وخبر مَن أخبر عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه اعتمَر مع حجَّته ، وليس مع مَن قال ‏:‏ إنه أفرد الحجَّ شئٌ من ذلك البتّة ، فلم يَقُلْ أحدٌ منهم عنه ‏:‏ إنِّى أفردت ، ولا أتانى آتٍ من ربى يأمرُنى بالإفراد ، ولا قال أحدٌ ‏:‏ ما بالُ الناسِ حَلُّوا ، ولم تَحِلَّ مِن حَجَّتك ، كما حَلُّوا هم بعُمرة ، ولا قال أحدٌ ‏:‏ سمعتُه يقول ‏:‏ لبَّيْكَ بعُمرة مفردة البتة ، ولا بحَج مفرد ، ولا قال أحدٌ ‏:‏ إنه اعتمر أربع عُمَر الرابعة بعد حَجته ، وقد شهد عليه أربعة من الصحابة أنهم سمعوه يُخبِرُ عن نفسه بأنه قارن ، ولا سبيلَ إلى دفع ذلك إلا بأن يقال ‏:‏ لم يسمعوه ‏.‏ ومعلوم قطعاً أن تطرُّقَ الوهم والغلطِ إلى مَن أخبر عما فهمه هو مِن فعله يظنُّه كذلك أولى من تَطَرَّق التكذيب إلى مَن قال ‏:‏ سمعتُه يقول كذا وكذا وإنه لم يسمعه ، فإن هذا لا يتطرق إليه إلا التكذيبُ ، بِخلافِ خبرِ مَن أخبر عما ظنَّه مِن فعله وكان واهماً ، فإنه لا يُنسب إلى الكذب ، ولقد نزَّه اللَّه علياً ، وأنساً ، والبرّاء ، وحفصة عن أن يقولوا ‏:‏ سمعناه يقول كذا ولم يسمعوه ، نزَّهه ربّه تبارك وتعالى ، أن يرسل إليه ‏:‏ أن افعل كذا وكذا ولم يفعله ، هذا مِن أمحل المُحال ، وأبطلِ الباطل ، فكيف والذين ذكروا الإفراد عنه لم يُخالفوا هؤلاء في مقصودهم ، ولا ناقضوهم ، وإنما أرادوا إفراد الأعمال ، واقتصاره على عمل المفرد ، فإنه ليس في عمله زيادةٌ على عمل المفرد ‏.‏ ومَن روى عنهم ما يُوهِم خلاف هذا ، فإنه عبَّر بحسب ما فهمه ، كما سمع بكر بن عبد اللَّه بنَ عمر يقول ‏:‏ أفرد الحج ، فقال ‏:‏ لبَّى بالحجِّ وحده ، فحمله على المعنى ‏.‏ وقال سالم ابنه عنه ونافع مولاه ‏:‏ إنه تمتَّع ، فبدأ فأهلَّ بالعُمرة ، ثم أهلَّ بالحجِّ ، فهذا سالم يُخبرُ بخلاف ما أخبر به بكر ، ولا يَصِحُّ تأويل هذا عنه بأنه أمر به ، فإنه فسَّره بقوله ‏:‏ وبدأ فأهلَّ بالعُمرة ، ثم أهلَّ بالحجِّ ، وكذا الذين رَوَوُا الإفراد عن عائشة رضى اللَّه عنها ، فهما ‏:‏ عُروة ، والقاسم ، وروى القِران عنها عروةُ ، ومجاهد ، وأبو الأسود يروى عن عُروة الإفراد ، والزُّهرى يروى عنه القِران ‏.‏ فإن قدَّرنا تساقُطَ الروايتين ، سلمت رواية مجاهد ، وإن حُمِلَتْ رِوايةُ الإفراد على أنه أفرد أعمال الحج ، تصادقت الروايات وصدَّق بعضها بعضاً ، ولا ريب أن قول عائشة ، وابن عمر ‏:‏ أفرد الحجَّ ، محتمل لثلاثة معان ‏:‏

أحدها ‏:‏ الإهلال به مفرداً ‏.‏

الثانى ‏:‏ إفرادُ أعماله ‏.‏

الثالث ‏:‏ أنه حجَّ حَجةً واحدة لم يَحُجَّ معها غيرها ، بخلافِ العُمْرة ، فإنها كانت أربع مرات ‏.‏

وأما قولهما ‏:‏ تمتَّع بالعُمرة إلى الحج ، وبدأ فأهلَّ بالعُمْرة ، ثم أهلَّ بالحج ، فحكيا فِعلَه ، فهذا صريح لا يحتمِل غير معنى واحد ، فلا يجوز ردُّه بالمجمل ، وليس في رواية الأسود بن يزيد وعمرة عن عائشة ، أنه أهلَّ بالحجِّ ما يُناقض رواية مجاهد وعُروة عنها أنه قرن ، فإن القارِن حاج مُهِل بالحجِّ قطعاً ، وعُمْرته جزء من حَجته ، فمن أخبر عنها أنه أهلَّ بالحج ، فهو غيرُ صادق ، فإن ضُمت رِواية مجاهد إلى رواية عمرة والأسود ، ثم ضُمتا إلى رواية عُروة ، تبيَّن من مجموع الروايات أنه كان قارناً ، وصدَّق بعضُّها بعضاً ، حتى لو لم يحتَمِلْ قولُ عائشة وابن عمر إلا معنى الإهلال به مفرداً ،لَوَجَبَ قَطْعاً أن يكون سبيله سبيل قول ابن عمر ‏:‏ اعتمر في رجب ، وقول عائشة أو عروة ‏:‏ إنه صلى اللَّه عليه وسلم اعتمر في شوَّال ، إلا أن تلك الأحاديث الصحيحة الصريحة لا سبيل أصلاً إلى تكذيب رواتها ولا تأويلها وحملها على غير ما دلَّت عليه ، ولا سبيل إلى تقديم هذه الرواية المجملة التي قد اضطربت على رواتها ، واختُلِفَ عنهم فيها ، وعارضهم مَنْ هو أوثق منهم أو مثلُهم عليها ‏.‏

وأما قول جابر ‏:‏ إنه أفرد الحَجَّ ، فالصريحُ من حديثه ليس فيه شئ من هذا ، وإنما فيه إخبارُه عنهم أنفسهم أنهم لا ينوون إلا الحج ، فأين في هذا ما يدل على أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لبَّى بالحجِّ مفرداً ‏.‏

وأما حديثه الآخرُ الذي رواه ابن ماجه ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أفرد الحَج ، فله ثلاث طرق ‏.‏ أجودها ‏:‏ طريق الدراوردى عن جعفر بن محمد عن أبيه ، وهذا يقيناً مختصر من حديثه الطويل في حَجَّة الوداع ، ومروى بالمعنى ، والناس خالفوا الدراوردى في ذلك ‏.‏ وقالوا ‏:‏ أهلَّ بالحَجِّ ، وأهلَّ بالتوحيد ‏.‏ والطريق الثانى ‏:‏ فيها مُطرِّف بن مُصعب ، عن عبد العزيز بن أبي حازم ، عن جعفر ومُطرِّف ، قال ابن حزم ‏:‏ هو مجهول ، قلتُ ‏:‏ ليس هو بمجهول ، ولكنه ابنُ أخت مالك ، روى عنه البخارى ، وبشر بن موسى، وجماعة ‏.‏ قال أبو حاتم ‏:‏ صدوق مضطرب الحديث ، هو أحبُّ إلىَّ من إسماعيل بن أبي أويس ، وقال ابن عدى ‏:‏ يأتى بمناكير ، وكأنَّ أبا محمد ابن حزم رأى في النسخة مُطرِّف بن مُصعب فجهله ، وإنما هو مُطرِّف أبو مصعب ، وهو مطرِّف ابن عبد الله بن مطرِّف بن سليمان بن يسار ، وممن غَلِطَ في هذا أيضاً ، محمد بن عثمان الذهبى في كتابه ‏(‏ الضعفاء ‏)‏ فقال ‏:‏ مُطرِّف بن مُصعب المدنى عن ابن أبي ذئب منكر الحديث ‏.‏ قلتُ ‏:‏ والراوى عن ابن أبي ذئب ، والدراوردى ، ومالك ، هو مُطرِّف أبو مُصعب المدنى ، وليس بمنكر الحديث ، وإنما غرَّه قولُ ابنِ عدى ‏:‏ يأتى بمناكير ، ثم ساق له منها ابنُ عدى جملة ، لكن هي من روايةِ أحمد بن داود بن صالح عنه ، كذَّبه الدارقطنى ، والبلاء فيها منه ‏.‏

والطريق الثالث ‏:‏ لحديث جابر فيها محمد بن عبد الوهَّاب يُنظر فيه مَن هو وما حالُه عن محمد بن مسلم ، إن كان الطائفى ، فهو ثقة عند ابن معين ، ضعيف عند الإمام أحمد ، وقال ابن حزم ‏:‏ ساقط البتة ، ولم أر هذه العبارة فيه لغيره ، وقد استشهد به مسلم ، قال ابنُ حزم ‏:‏ وإن كان غيره ، فلا أدرى مَن هو ‏؟‏ قلت ‏:‏ ليس بغيره ، بل هو الطائفى يقيناً ، وبكلِّ حال فلو صح هذا عن جابر ، لكان حكمه حكم المروىِّ عن عائشة وابنِ عمر ، وسائر الرواة الثقات ، إنما قالوا ‏:‏ أهلَّ بالحَجِّ ، فلعلَّ هؤلاء حملوه على المعنى ، وقالوا ‏:‏ أفرد الحَج ، ومعلوم أن العُمرة إذا دخلت في الحجِّ ، فمَن قال ‏:‏ أهلَّ بالحَج ، لا يُناقِضُ مَن قال ‏:‏ أهلَّ بهما ، بل هذا فصَّل ، وذاك أجمل ‏.‏ ومَن قال ‏:‏ أفرد الحجَّ ، يحتمِل ما ذكرنا من الوجوه الثلاثة ، ولكن هل قال أحدٌ قطُّ عنه ‏:‏ إنه سمعه يقول ‏:‏ ‏(‏ لبَّيْكَ بِحَجَّةٍ مفردة ‏)‏ ، هذا ما لا سبيل إليه ، حتى لو وُجِدَ ذلك لم يُقَدَّمْ على تلك الأساطين التي ذكرناها والتي لا سبيلَ إلى دفعها البتة ، وكان تغليطُ هذا أو حملُه على أول الإحرام ، وأنه صار قارناً في أثنائه متعيناً ، فكيف ولم يثبُت ذلك ، وقد قدَّمنا عن سُفيان الثورى ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر رضى اللَّه عنه ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، قرن في حَجَّة الوداع ‏.‏ رواه زكريا الساجى ، عن عبد اللَّه بن أبي زياد القَطَوانى ، عن زيد ابن الحُباب ، عن سفيان ، ولا تناقض بين هذا وبين قوله ‏:‏ أهلَّ بالحَجِّ ، وأفرد بالحَجِّ ، ولبَّى بالحَجِّ ، كما تقدَّم ‏.‏

فصل‏:‏ في الترجيح لرواية مَن روى القِران

فحصل الترجيحُ لرواية مَن روى القِران لوجوه عشرة ‏.‏

أحدها ‏:‏ أنهم أكثرُ كما تقدَّم ‏.‏

الثانى ‏:‏ أن طُرق الإخبار بذلك تنوّعت كما بيَّناه ‏.‏

الثالث ‏:‏ أن فيهم مَن أخبر عن سماعه ولفظه صريحاً ، وفيهم مَن أخبر عن إخباره عن نفسه بأنه فعل ذلك ، وفيهم مَن أخبر عن أمر ربه له بذلك ، ولم يجئ شئٌ من ذلك في الإفراد ‏.‏

الرابع ‏:‏ تصديقُ روايات مَن روى أنه اعتمر أربع عُمَر لها ‏.‏

الخامس ‏:‏ أنها صريحة لا تحتمِلُ التأويل ، بخلاف روايات الإفراد ‏.‏

السادس ‏:‏ أنها متضمِّنة زيادةً سكت عنها أهلُ الإفراد أو نَفَوْها ، والذاكر الزائد مقدَّم على الساكت ، والمُثْبِتُ مقدَّم على النافى ‏.‏

السابع ‏:‏ أن رواة الإفراد أربعة ‏:‏ عائشة ، وابنُ عمر ، وجابر ، وابنُ عباس ، والأربعة رَوَوُا القِران ، فإن صِرنا إلى تساقُطِ رواياتهم ، سَلِمَتْ رواية مَن عداهم للقِران عن معارض ، وإن صِرنا إلِى الترجيح ، وجب الأخذُ برواية مَن لم تضطِرب الروايةُ عنه ولا اختلفت ، كالبرَّاء ، وأنس ، وعمرَ بن الخطاب ، وعِمران بن حصين ، وحفصة ، ومَن معهم ممن تقدَّم ‏.‏

الثامن ‏:‏ أنه النُّسُك الذي أُمِرَ به من ربِّه ، فلم يكن ليعدل عنه ‏.‏

التاسع ‏:‏ أنَّه النُّسُك الذي أُمر به كُلُّ مَن ساق الهَدْى ، فلم يكن لِيأمرهم به إذا سَاقُوا الهَدْى ، ثم يسوق هو الهَدْى ويُخالفه ‏.‏

العاشر ‏:‏ أنَّه النُّسُك الذي أَمر به آله وأهلَ بيتِهِ ، واختاره لهم ، ولم يكن لِيختارَ لهم إلا ما اختارَ لنفسه ‏.‏

وَثَمَّتَ ترجيحٌ حادى عشر ، وهو قوله ‏:‏ ‏(‏ دخلت العُمْرة في الحَجِّ إلى يوم القيامة ‏)‏ ، وهذا يقتضى أنها قد صارت جُزءاً منه ، أو كالجزء الداخل فيه ، بحيث لا يُفصل بينها وبينه ، وإنما تكون مع الحجِّ كما يكون الداخل في الشئ معه ‏.‏

وترجيح ثانى عشر ‏:‏ وهو قولُ عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه للصُّـبَىّ ابن معبد وقد أهلَّ بحجٍّ وعُمرة ، فأنكر عليه زيد بن صُوحان ، أو سلمان ابن ربيعة ، فقال له عمر ‏:‏ هُدِيتَ لسُّـنَّة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا يُوافق رواية عمر عنه صلى اللَّه عليه وسلم أن الوحى جاءه من اللَّه بالإهلالِ بهما جميعاً ، فدلَّ على أن القِران سُّـنَّتُه التي فَعَلَها ، وامتثلَ أمرَ اللَّه له بِها ‏.‏

وترجيح ثالث عشر ‏:‏ أن القارنَ تقعُ أعمالُه عن كُلٍّ من النُّسُكين ، فيقع إحرامُه وطوافُه وسعيُه عنهما معاً ، وذلك أكملُ مِن وقوعه عن أحدهما ، وعمل كل فعل على حِدة ‏.‏

وترجيح رابع عشر ‏:‏ وهو أن النُّسُكَ الذي اشتمل على سَوْق الهَدْى أفضلُ بلا ريب مِن نُسُكٍ خلا عن الهَدْى ، فإذا قَرنَ ، كان هَدْيُه عن كل واحد من النُّسُكين ، فلم يَخْلُ نُسُكٌ منهما عن هَدْى ، ولهذا واللَّه أعلم أمرَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مَن ساق الهَدْى أن يُهِلَّ بالحَجِّ والعُمْرة معاً ، وأشار إلى ذلك في المتفق عليه من حديث البرَّاء بقوله ‏:‏ ‏(‏ إنى سُقْتُ الهَدْىَ وَقَرنْتُ ‏)‏ ‏.‏

وترجيح خامس عشر ‏:‏ وهو أنه قد ثبت أن التمتع أفضلُ من الإفراد لوجوه كثيرة منها ‏:‏ أنه صلَّى اللَّه عليه وسلم أمرهم بفسخ الحَجِّ إليه ، ومُحالٌ أن يَنْقُلَهُم من الفاضِل إلى المفضُول الذي هو دونه ‏.‏ ومنها ‏:‏ أنه تأسَّف على كونه لم يفعله بقوله ‏:‏ ‏(‏ لو اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرى مَا اسْتَدْبَرْتُ لمَا سُقْتُ الهَدْىَ ولَجَعَلْتُها عُمْرةً ‏)‏ ‏.‏ ومنها ‏:‏ أنه أَمر به كُلَّ مَن لم يَسُقِ الهَدْىَ ‏.‏ ومنها ‏:‏ أن الحجَّ الذي استقر عليه فعله وفعل أصحابه القِران لمن ساق الهَدْىَ ، والتمتع لمن لم يَسُق الهَدْى ، ولوجوه كثيرة غير هذه ، والمتمتع إذا ساق الهَدْى ، فهو أفضلُ مِن متمتع اشتراه من مكة ، بل في أحد القولين ‏:‏ لا هَدْى إلا ما جمع فيه بين الحِلِّ والحَرَم ‏.‏ فإذا ثبت هذا ، فالقارِن السائق أفضلُ من متمتع لم يسق ، ومِن متمتع ساق الهَدْى لأنه قد ساق من حين أحرم ، والمتمتع إنما يسوقُ الهَدْى مِن أدنى الحِلِّ ، فكيف يُجعل مُفرِدٌ لم يَسُقْ هَدْياً ، أفضل من متمتِّع ساقه من أدنى الحل ‏؟‏ فكيف إذا جُعِل أفضل من قارن ساقه من الميقات ، وهذا بحمد اللَّه واضح ‏.‏

فصل‏:‏ في عذر مَن قال إنه صلى الله عليه وسلم حج متمتعاً تمتعاً حلَّ فيه من إحرامه

وأما قول مَن قال ‏:‏ إنه حَجَّ متمتعاً تمتعاً حلَّ فيه من إحرامه ، ثم أحرم يومَ التَّرويةِ بالحجِّ مع سَوْق الهَدْى ، فعذره ما تقدَّم من حديث معاوية ، أنه قصَّرَ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بِمِشْقَصٍ في العشر وفى لفظ ‏:‏ وذلك في حُجَّته ‏.‏ وهذا مما أنكره الناسُ على معاوية ، وغلَّطوه فيه ، وأصابه فيه ما أصاب ابنَ عمر في قوله ‏:‏ إنه اعتمر في رجب ، فإن سائر الأحاديث الصحيحة المستفيضة من الوجوه المتعدِّدة كلها تدل على أنه صلى اللَّه عليه وسلم لم يَحِلَّ من إحرامه إلاَّ يوم النحر ، ولذلك أخبر عن نفسه بقوله ‏:‏ ‏(‏ لَوْلاَ أَنَّ مَعىَ الهَدْىَ لأَحْلَلْتُ ‏)‏ ، وقوله ‏:‏ ‏(‏ إِنِّى سُقْتُ الهَدْىَ وَقَرَنْتُ فَلاَ أُحِلُّ حتَّى أَنْحَرَ ‏)‏ ‏.‏ وهذا خبرٌ عن نفسه ، فلا يدخله الوهمُ ولا الغلطُ ، بخلاف خبر غيره عنه ، لا سيما خبراً يخالِفُ ما أخبر به عن نفسه ، وأخبر عنه به الجمُّ الغفيرُ ، أنه لم يأخذ من شعره شيئاً ، لا بتقصير ولا حلق ، وأنه بقى على إحرامه حتى حَلَق يومَ النحر ، ولعل معاوية قصَّرَ عن رأسه في عمرة الجِعْرانة ، فإنه كان حينئذ قد أسلم ، ثم نسى ، فظن أن ذلك كان في العشر ، كما نسى ابنُ عمر أن عُمَرَهُ كانت كلُّها في ذى القِعْدةَ ‏.‏ وقال ‏:‏ كانت ‏[‏ إحداهن ‏]‏ في رجب ، وقد كان معه فيها ، والوهم جائزٌ على مَن سوى الرسول صلى الله عليه وسلم ‏.‏ فإذا قام الدليل عليه ، صار واجباً ‏.‏

وقد قيل ‏:‏ إن معاوية لعله قصَّرَ عن رأسه بقية شعر لم يكن استوفاه الحلاَّقُ يوم النحر ، فأخذه معاوية على المروة ، ذكره أبو محمد بن حزم ، وهذا أيضاً مِن وهمه ، فإن الحلاَّق لا يُبقى غلطاً شعراً يُقصَّر منه ، ثم يُبقى منه بعد التقصير بقية يوم النحر ، وقد قسم شعر رأسه بين الصحابة ، فأصاب أبا طلحة أحد الشِّقين ، وبقية الصحابة اقتسموا الشِّقَ الآخر ، الشعرة ، والشعرتين ، والشعرات ، وأيضاً فإنه لم يسعَ بين الصَّفا والمروةِ إلا سعياً واحداً وهو سعيُه الأول ، لم يسعَ عقب طوافِ الإفاضة ، ولا اعتمر بعد الحَجِّ قطعاً ، فهذا وهم مَحْضٌ ‏.‏ وقيل ‏:‏ هذا الإسناد إلى معاوية وقع فيه غلط وخطأ ، أخطأ فيه الحسن ابن علىٍّ ، فجعله عن معمر ، عن ابن طاووس ، وإنما هو عن هشام ابن حُجير، عن ابن طاووس ، وهشام ‏:‏ ضعيف ‏.‏

قلت ‏:‏ والحديثُ الذي في البخارى عن معاوية ‏:‏ قصَّرْتُ عن رأس رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم بمشْقَصٍ ، وَلَمْ يَزِدْ على هَذَا ، والذي عند مسلم ‏:‏ قَصَّرْتُ عَنْ رَأسِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم بِمِشْقَصٍ عَلَى المَرْوَةِ ‏.‏ وليس في ‏(‏ الصحيحين ‏)‏ غير ذلك ‏.‏

وأما روايةُ مَن روى ‏:‏ ‏(‏ في أيام العشر ‏)‏ فليست في الصحيح ، وهى معلولة ، أو وهم من معاوية ‏.‏ قال قيس بن سعد راويها عن عطاء عن ابن عباس عنه ، والناس يُنكِرُونَ هذا على معاوية ‏.‏ وصدق قيس ، فنحن نحلِفُ باللَّهِ ‏:‏ إن هذا ما كان في العشر قطُّ ‏.‏

ويشبه هذا وهم معاوية في الحديث الذي رواه أبو داود ، عن قتادة ، عن أبي شيخ الهُنائى ، أن معاوية قال لأصحاب النبىِّ صلى الله عليه وسلم ‏:‏ هل تعلمُون أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كَذَا ، وَعَنْ رُكُوبِ جُلُودِ النُّمُورِ ‏؟‏ قالوا ‏:‏ نَعَم ‏.‏ قال ‏:‏ فَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقْرَنَ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ ‏؟‏ قَالوا ‏:‏ أَمَّا هذِهِ ، فَلاَ ، فَقَالَ ‏:‏ أَما إنَّهَا مَعَهَا وَلَكِنَّكُمْ نَسِيتُم ‏.‏ ونحن نَشْهَدُ باللَّهِ ‏:‏ إن هذا وهم مِن معاوية ، أو كذبٌ عليه ، فلم ينهَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك قطُّ ، وأبو شيخ شيخ لا يُحتج به ، فضلاً عن أن يقدَّم على الثقات الحفَّاظ الأعلام ، وإن روى عنه قتادة ويحيى بن أبي كثير واسمه خيوان ابن خلدة بالخاء المعجمة وهو مجهول ‏.‏

فصل‏:‏ في الرد على مَن زعم أنه صلى الله عليه وسلم حَجَّ متمتعاً

وأما مَن قال ‏:‏ حجَّ متمتُّعاً تمتُّعاً لم يَحِلَّ منه لأجل سَوْق الهَدْى كما قاله صاحب ‏(‏ المغنى ‏)‏ وطائفة ، فعذرُهم قولُ عائشة وابن عمر ‏:‏ تمتَّع رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ‏.‏ وقول حفصة ‏:‏ ما شأن الناس حلُّوا ولم تَحلَّ من عمرتك ‏؟‏ وقول سعد في المتعة ‏:‏ قد صنعها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وصنعناها معهُ ، وقول ابن عمر لمن سأله عن متعة الحَجِّ ‏:‏ هي حلال ‏؟‏ فقال له السائلُ ‏:‏ إن أباكَ قد نهى عنها ، فقال ‏:‏ أرأيتَ إن كان أبي نهى عنها ، وصَنَعَهَا رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم ، أأمَر أبي تَتَّبِعُ ، أم أمَر رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم ‏؟‏ فقال الرجل ‏:‏ بل أمرَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ‏.‏ فقال ‏:‏ لقد صَنَعَها رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وآلهِ وسلَّم ‏.‏

قال هؤلاء ‏:‏ ولولا الهَدْىُ لحلَّ كما يحلُّ المتمتعُ الذي لا هَدْىَ معه ، ولهذا قال ‏:‏ ‏(‏ لولا أنَّ مَعىَ الهَدْىَ لأَحْلَلْتُ ‏)‏ فأخبر أن المانع له مِن الحلِّ سوقُ الهَدْى ، والقارنُ إنما يمنعه من الحلِّ القِرانُ لا الهَدْىُ ، وأربابُ هذا القول قد يُسمُّون هذا المتمتَع قارناً ، لِكونه أحرَم بالحَجِّ قبل التحلل من العُمْرةِ ولكنَّ القِران المعروفَ أن يُحرِم بهما جميعاً ، أو يُحرمِ بالعُمْرة ، ثم يُدخِلَ عليها الحَج قبل الطواف ‏.‏

والفرق بين القارِن والمتمتع السائق من وجهين ، أحدهما ‏:‏ من الإحرام ، فإن القارن هو الذي يُحرِم بالحَجِّ قبل الطواف ، إما في ابتداء الإحرام ، أو في أثنائه ‏.‏

والثانى ‏:‏ أن القارن ليس عليه إلا سعىٌ واحد ، فإن أتى به أولاً ، وإلا سعى عقيبَ طواف الإفاضة ، والمتمتعُ عليه سعى ثانٍ عند الجمهور ‏.‏ وعن أحمد رواية أخرى ‏:‏ أنه يكفيه سعى واحد كالقارن ، والنبى صلى الله عليه وسلم لم يسعَ سعياً ثانياً عقيبَ طوافِ الإفاضة ، فكيف يكونُ متمتعاً على هذا القولِ ‏.‏

فإن قيل ‏:‏ ‏:‏ فعلى الرواية الأخرى ، يكون متمتعاً ، ولا يتوجه الإلزام ، ولها وجه قوى من الحديث الصحيح ، وهو ما رواه مسلم في ‏(‏ صحيحه ‏)‏ ، عن جابر قال ‏:‏ لم يطفِ النبى صلى الله عليه وسلم ، ولا أصحابهُ بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً ‏.‏ طوافَه الأول هذا ، مع أنَّ أكثرَهم كانُوا متمتِّعين ‏.‏ وقد روى سفيانُ الثورىُّ ، عن سلمةَ بن كُهيل قال ‏:‏ حلف طاووس ‏:‏ ما طاف أحدٌ من أصحاب رسولِ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم لِحَجِّه وعُمرته إلا طوافاً واحداً ‏.‏

قيل ‏:‏ الذين نظروا أنه كان متمتعاً تمتعاً خاصاً ، لا يقولُون بهذا القول ، بل يُوجِبون عليه سَعيين ، والمعلومُ مِن سُّـنَّته صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم ، أنه لم يسعَ إلا سعياً واحداً ، كما ثبت في الصحيح ، عن ابن عمر ، أنه قرن ، وقدم مكة ، فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ، ولم يزد على ذلك ، ولم يحلِقْ ولا قصَّر ، ولا حَلَّ مِن شئ حرم منه ، حتى كان يومُ النحر ، فنحَرَ وحلَق رأسه ، ورأى أنه قد قضى طوافَ الحجِّ والعُمْرة بطوافِه الأول ، وقال ‏:‏ هكذا فعل رسولُ الله صلى اللَّه عليه وآله وسلم ‏.‏ ومراده بطوافه الأول الذي قضى به حَجَّه وعُمْرته ‏:‏ الطوافُ بين الصفا والمروة بلا ريب ‏.‏

وذكر الدارقطنى ، عن عطاء ونافع ، عن ابن عمر ، وجابر ‏:‏ أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم ، إنما طاف لحَجِّه وعُمرته طوافاً واحداً ، وسعى سعياً واحداً ، ثم قَدِمَ مكة ، فلم يسعَ بينهما بعد الصَّدَرِ فهذا يدل على أحدِ أمرين ، ولا بُد إما أن يكون قارناً ، وهو الذي لا يُمكن مَن أوجبَ على المتمتع سعيينِ أن يقولَ غيرَه ، وإما أن المتمتع يكفيه سعىٌ واحد ، ولكن الأحاديث التي تقدَّمت في بيان أنه كان قارناً صريحةٌ في ذلك ، فلا يُعدَل عنها ‏.‏

فإن قيل فقد روى شعبةُ ، عن حُميد بن هلال ، عن مُطرِّف ، عن عِمران بن حُصين ، أن النبىَّ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم ، طاف طوافين ، وسعى سعيين ‏.‏ رواه الدارقطنى عن ابن صاعد ‏:‏ حدثنا محمد بن يحيى الأزدى ، حدثنا عبد اللَّه بن داود ، عن شعبة ‏.‏ قيل ‏:‏ هذا خبر معلول وهو غلط ‏.‏ قال الدارقطنى ‏:‏ يقال ‏:‏ إن محمد بن يحيى حدَّث بهذا من حفظه ، ‏]‏فوهم في متنه والصواب بهذا الإسناد ‏:‏ أن النبىَّ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم قرن بين الحَجِّ والعُمرة واللَّه أعلم ‏.‏ وسيأتى إن شاء اللَّه تعالى ما يدل على أن هذا الحديث غلط ‏.‏

وأظن أن الشيخ أبا محمد بن قدامة ، إنما ذهب إلى أنَّ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم كان متمتعاً ، لأنه رأى الإمام أحمد قد نصَّ على أن التمتعَ أفضلُ مِن القِران ، ورأى أن اللَّه سُبحانه لم يكن لِيختارَ لِرسوله إلا الأفضلَ ، ورأى الأحاديثَ قد جاءت بأنه تمتع ، ورأى أنها صريحةٌ في أنه لم يَحِلَّ ، فأخذ من هذه المقدمات الأربع أنه تمتع تمتعاً خاصاً لم يَحِلَّ منه ، ولكن أحمد لم يُرجح التمتع ، لكون النبىَّ صلى الله عليه وسلم حجَّ متمتعاً ، كيف وهو القائل ‏:‏ لا أشكُّ أن رسولَ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم كان قارناً ، وإنما اختار التمتع لِكونه آخِرَ الأمرين مِن رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم ، وهو الذي أمر به الصحابة أن يَفسخُوا حَجَّهم إليه ، وتأسَّف على فوته ‏.‏

ولكن نقل عنه المَرْوَزِى ، أنه إذا ساق الهَدْىَ ، فالقِران أفضل ، فمِن أصحابه مَنْ جَعل هذا رواية ثانية ، ومِنهم مَن جعل المسألة روايةً واحدةً ، وأنه إن ساق الهَدْىَ ، فالقِران أفضلُ ، وإن لم يَسُقْ فالتمتُّع أفضلُ ، وهذه طريقة شيخنا ، وهى التي تليق بأصولِ أحمد ، والنبىُّ صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم لم يتمنَّ أنه كان جعلها عُمْرةٌ مع سوقه الهَدْىَ ، بل ودَّ أنه كان جعلها عُمْرة ولم يَسُقِ الهدىَ ‏.‏

بقى أن يُقال ‏:‏ فأىُّ الأمرين أفضلُ ، أن يسوقَ ويَقْرِنَ ، أو يترك السَّوْق ويتمتَّعَ كما ودَّ النبىُّ صلى الله عليه وسلم أنه فعله ‏.‏

قيل ‏:‏ قد تعارض في هذه المسألة أمرانِ ‏.‏

أحدُهما ‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم قرن وساق الهَدْى ، ولم يكن اللَّه سبحانه لِيختار له إلا أفضلَ الأمور ، ولا سيما وقد جاءه الوحى به من ربه تعالى ، وخيرُ الهَدْى هَدْيه صلى الله عليه وسلم ‏.‏

والثانى قوله ‏:‏ ‏(‏ لو اسْتَقْبَلْتُ من أَمْرى ما اسْتَدْبَرْتُ لمَا سُقْتُ الهَدْىَ ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً ‏)‏ ‏.‏ فهذا يقتضى ، أنه لو كان هذا الوقتُ الذي تكلم فيه هو وقت إحرامه ، لكان أحرم بعُمْرة ولم يَسُق الهَدْى ، لأن الذي استدبره هو الذي فعله ، ومضى فصار خلفه ، والذي استقبله هو الذي لم يفعله بعدُ ، بل هو أمامَهُ ، فبيَّن أنه لو كان مستقبلاً لما استدبره ، وهو الإحرام بالعُمْرة دون هَدْى ، ومعلوم أنه لا يختارُ أن ينتقِلَ عن الأفضل إلى المفضولِ ، بل إنما يختارُ الأفضلَ ، وهذا يَدلُّ على أن آخِر الأمرينِ منه ترجيحُ التمتع ‏.‏

ولمن رجَّح القِرانَ مع السَّوقِ أن يقولَ ‏:‏ هو صلى اللَّه عليه وسلم لم يَقُلْ هذا ، لأجل أن الذي فعله مفضولٌ مرجُوح ، بل لأن الصحابة شقَّ عليهم أن يَحِلُّوا من إحرامهم مع بقائه هو مُحِرماً ، وكان يختار موافقتهم لِيفعلوا ما أُمِرُوا به مع انشراحٍ وقبول ومحبة ، وقد ينتقِل عن الأفضل إلى المفضول ، لما فيه من الموافقة وتأليف القلوب ، كما قال لعائشة ‏:‏ ‏(‏ لَوْلاَ أنَّ قَومَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بَجَاهِلَّيةٍ لَنَقَضْتُ الكَّعْبَةَ وجَعَلْتُ لهَا بَابَيْنِ ‏)‏ فهذا تركُ ما هو الأولى لأجل الموافقة والتأليف ، فصار هذا هو الأَوْلى في هذه الحال ، فكذلك اختيارُه للمُتعة بلا هَدْى ‏.‏ وفى هذا جمع بين ما فعله وبين ما ودَّه وتمنَّاه ، ويكون اللَّه سبحانه قد جمع له بين الأمرين ، أحدُهما بفعله له ، والثانى ‏:‏ بتمنِّيه وودِّه له ، فأعطاه أجرَ ما فعله ، وأجرَ ما نواه من الموافقة وتمنَّاه ، وكيف يكون نُسُكٌ يتخلَّلُه التَّحللُ ولم يَسُقْ فيه الهَدْىَ أفضلَ مِن نُسُكٍ لم يتخلَّله تحلُّل ، وقد ساق فيه مائةَ بَدَنةٍ ، وكيف يكون نُسُكٌ أفضل في حقه من نُّسُك اختاره اللَّه له ، وأتاه به الوحىُ من ربه

فإن قيل ‏:‏ التمتع وإن تخلله تحلل ، لكن قد تكرَّرَ فيه الإحرامُ ، وإنشاؤه عبادة محبوبة للرب ، والقِران لا يتكرر فيه الإحرام ‏؟‏

قيل ‏:‏ في تعظيم شعائر اللَّه بسوق الهَدْى ، والتقرب إليه بذلك من الفضل ما ليس في مجرد تكرر الإحرام ، ثم إن استدامته قائمةٌ مقام تكرُّره ، وسوقُ الهَدْى لا مقابل له يقومُ مقامه ‏.‏

فإن قيل ‏:‏ فأيُّما أفضلُ ، إفراد يأتى عقيبَه بالعُمْرة أو تمتع يَحِلُّ منه ، ثم يُحِرمُ بالحج عقيبَه ‏؟‏

قيل ‏:‏ معاذ اللَّه أن نظن أن نُسُكاً قطُّ أفضلُ من النُّسُكِ الذي اختاره اللَّه لأفضل الخلق ، وسادات الأُمَّة ، وأن نقول في نُسُك لم يفعله رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد من الصحابة الذين حَجُّوا معه ، بل ولا غيرُهم من أصحابه ‏:‏ إنه أفضلُ مما فعلوه بأمره ، فكيف يكون حَج على وجه الأرض أفضلَ مِن الحَجِّ الذي حجَّه النبى صلواتُ اللَّه عليه ، وأُمِرَ به أفْضَلُ الخلق ، واختاره لهم ، وأمرهم بفسخ ما عداه من الأنساك إليه ، وودَّ أنه كان فعله ، لا حَجَّ قطُّ أكملُ من هذا ‏.‏ وهذا وإن صح عنه الأمر لمن ساق الهَدْىَ بالقِران ، ولمن لم يسقْ بالتمتع ، ففى جوازِ خِلافه نظر ، ولا يُوحشْك قِلَّةُ القائلين بوجوب ذلك ، فإن فيهم البحرَ الذي لا يَنْزِفُ عبدَ اللَّه بن عباس وجماعةً من أهل الظاهر ، والسُّـنَّة هي الحَكَمُ بين الناس ‏.‏‏.‏ واللَّه المستعان ‏.‏

فصل‏:‏ في عذر مَن قال إنه صلى الله عليه وسلم حج قارناً قِراناً طاف له طوافين ، وسعى له سعيين

وأما مَن قال ‏:‏ إنه حَجَّ قارِناً قِراناً طاف له طوافين ، وسعى له سعيين ، كما قاله كثير من فقهاء الكوفة ، فعُذْرُه ما رواه الدارقطنى من حديث مجاهد ، عن ابن عمر ‏:‏ أنه جمع بين حَجٍّ وعُمْرة معاً ، وقال ‏:‏ سبيلهما واحد ، قال ‏:‏ وطاف لهما طوافين ، وسعى لهما سعيين ‏.‏ وقال ‏:‏ هكذا رأيتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت ‏.‏

وعن علىِّ بن أبي طالب ، أنه جمع بينهما ، وطافَ لهما طوافين ، وسَعَى لهما سعيين ، وقال ‏:‏ هكذا رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صنعَ كما صنعتُ ‏.‏

وعن علىِّ رضى اللَّه عنه أيضاً أن النبى صلى الله عليه وسلم كان قارناً ، فطاف طوافَيْنِ ، وسعى سعيين ‏.‏

وعن علقمة ، عن عبد اللَّه بن مسعود قال ‏:‏ طافَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لحَجَّته وعُمرته طوافين ، وسعى سعيين ، وأبو بكر ، وعمر ، وعلىّ ، وابن مسعود ‏.‏

وعن عِمران بن حُصين ‏:‏ أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم طاف طوافَيْنِ ، وسعى سعيين

وما أحسن هذا العذرَ ، لو كانت هذه الأحاديثُ صحيحةً ، بل لا يَصِحُّ منها حرف واحد ‏.‏

أما حديث ابن عمر ، ففيه الحسن بن عُمارة ، وقال الدارقطنى ‏:‏ لم يروه عن الحكم غيرُ الحسن بن عُمارة ، وهو متروك الحديث ‏.‏

وأما حديثُ علىّ رضى اللَّه عنه الأول ، فيرويه حفص بن أبي داود ‏.‏ وقال أحمد ومسلم ‏:‏ حفص متروك الحديث ، وقال ابن خراش ‏:‏ هو كذَّاب يضع الحديث ، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، ضعيف ‏.‏

وأما حديثه الثانى ‏:‏ فيرويه عيسى بن عبد اللَّه بن محمد بن عمر بن على ، حدثنى أبي عن أبيه عن جده قال الدارقطنى ‏:‏ عيسى بن عبد اللَّه يقال له ‏:‏ مبارك ، وهو متروك الحديث ‏.‏

وأما حديث علقمة عن عبد اللَّه ، فيرويه أبو بردة عمرو بن يزيد ، عن حماد عن إبراهيم ، عن علقمة ‏.‏ قال الدارقطنى ‏:‏ وأبو بردة ضعيف ، ومَنْ دونه في الإسناد ضعفاء ‏.‏‏.‏ انتهى ‏.‏ وفيه عبد العزيز بن أبان ، قال يحيى ‏:‏ هو كذَّاب خبيث ‏.‏ وقال الرازى والنسائى ‏:‏ متروك الحديث ‏.‏

وأما حديث عِمران بن حصين ، فهو مما غَلِطَ فيه محمد بن يحيى الأزدى ، وحدَّث به من حفظه ، فوهم فيه ، وقد حدَّث به على الصواب مِراراً ، ويقال ‏:‏ إنه رجع عن ذكر الطواف والسعى ‏.‏

وقد روى الإمام أحمد ، والترمذى ، وابن حبان في ‏(‏ صحيحه ‏)‏ من حديث الدراوردى ، عن عُبيد اللَّه بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال ‏:‏ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ مَنْ قَرَنَ بين حَجَّتِهِ وَعُمْرَتِهِ ، أَجْزَأَهُ لَهُمَا طَوافٌ واحِدٌ ‏)‏ ‏.‏ ولفظ الترمذى ‏:‏ ‏(‏ مَنْ أَحْرَمَ بالحَجِّ والعُمْرَةِ أَجْزَأَهُ طَوافٌ وَسَعْىٌ وَاحِدٌ عنهما ، حَتَّى يَحِلَّ مِنهما جَميعاً ‏)‏ ‏.‏

وفى ‏(‏ الصحيحين ‏)‏ ، عن عائشةَ رضى اللَّه عنها قالت ‏:‏ خرجنا مَعَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الوداع ، فأهللنا بعُمرة ، ثم قال ‏:‏ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلْيُهلَّ بالحَجِّ والعُمْرَةِ ، ثُمَّ لا يَحِلّ حتَّى يَحلَّ مِنْهُمَا جَمِيعاً ، فطاف الَّذِينَ أَهَلُّوا بالعُمْرةِ ، ثُمَّ حَلُّوا ، ثم طَافُوا طَوَافاً آخَرَ بَعْدَ أنْ رَجَعُوا مِنْ مِنَى ، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ ، فإنَّمَا طَافُوا طَوَافَاً واحِداً ‏)‏ ‏.‏

وصحَّ أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لِعائِشة ‏:‏ ‏(‏ إنَّ طوافَكِ بالبَيْتِ وبِالصَّفَا والمَرْوَةِ ، يَكْفِيكِ لحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ ‏)‏ ‏.‏

وروى عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، طاف طوافاً واحِداً لحَجِّه وعُمرته ‏.‏ وعبد الملك ‏:‏ أحد الثقات المشهورين ، احتج به مسلم ، وأصحاب السنن ‏.‏ وكان يقال له ‏:‏ الميزان ، ولم يُتكلم فيه بضعف ولا جرح ، وإنما أُنكر عليه حديثُ الشفعة، وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عنه عَارُهَا

وقد روى الترمذى عن جابر رضى اللَّه عنه ، أن النبى صلى الله عليه وسلم قَرنَ بين الحجِّ والعُمرة ، وطاف لهما طوافاً واحداً وهذا ، وإن كان فيه الحجاج بن أرطاة ، فقد روى عنه سفيان ، وشعبة ، وابن نمير ، وعبد الرزاق ، والخلق عنه ‏.‏ قال الثورى ‏:‏ وما بقىَ أحد أعرفُ بما يخرُجُ من رأسه منه ، وعيب عليه التدليسُ ، وقلَّ من سَلِمَ منه ‏.‏ وقال أحمد ‏:‏ كان من الحفاظِ ، وقال ابن معين ‏:‏ ليس بالقوى ، وهو صدوق يدلس ‏.‏ وقال أبو حاتم ‏:‏ إذا قال ‏:‏ حدَّثنا ، فهو صادق لا نرتابُ في صدقه وحفظه ‏.‏ وقد روى الدارقطنى ، من حديث ليث بن أبي سليم قال ‏:‏ حدثنى عطاء ، وطاووس ، ومجاهد ، عن جابرٍ ، وعن ابن عمر ، وعن ابن عباس ‏:‏ أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يَطُفْ هو وأصحابه بين الصَّفا والمروة إلا طوافاً واحِداً لعُمْرتهم وحَجهم ‏.‏ وليث بن أبي سليم ، احتج به أهلُ السنن الأربعة ، واستشهد به مسلم ، وقال ابنُ معين ‏:‏ لا بأس به ، وقال الدارقُطنى ‏:‏ كان صاحبَ سُـنَّة ، وإنما أنكروا عليه الجمعَ بين عطاء وطاووس ومجاهد فحسب‏.‏ وقال عبد الوارث ‏:‏ كان من أوعية العلم ، وقال أحمد ‏:‏ مضطرِب الحديث ، ولكن حدَّث عنه الناس ، وضعَّفه النسائى ، ويحيى في رواية عنه ، ومثل هذا حديثه حسن ‏.‏ وإن لم يبلغ رتبة الصحة ‏.‏

وفى ‏(‏ الصحيحين ‏)‏ عن جابر قال ‏:‏ دخل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم على عائشة ، ثم وجدَها تبكى فَقَالَ ‏:‏ ‏(‏ ما يُبْكِيكِ ‏)‏ ‏؟‏ فقالت ‏:‏ قد حِضْتُ وقد حَلَّ الناس ولم أَحِلَّ ولم أطُفْ بالبَيْتِ ، فقال ‏:‏ ‏(‏ اغْتَسِلى ثُمَّ أهلِّى ‏)‏ ففعلت ، ثم وقفت المواقِفَ حتى إذا طهُرت ، طافت بالكعبة وبالصفا والمَرْوَةِ ، ثم قال ‏:‏ ‏(‏ قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ جَمِيعاً ‏)‏ ‏.‏

وهذا يدل على ثلاثة أُمور ، أحدها ‏:‏ أنها كانت قارنة ، والثانى ‏:‏ أن القارن يكفيه طوافٌ واحدٌ وسعىٌ واحد ‏.‏ والثالث ‏:‏ أنه لا يجب عليها قضاءُ تِلك العُمْرةِ التي حاضت فيها ، ثم أدخلت عليها الحجَّ ، وأنها تَرْفُض إحرام العُمْرة بحيضها ، وإنما رفضت أعمالها والاقتصارَ عليها ، وعائشة لَم تَطُفْ أولاً طوافَ القُدوم ، بل لم تَطُفْ إلا بعْدَ التَّعريفِ ، وسعت مع ذلك ، فإذا كان طوافُ الإفاضة والسعىُ بعدُ يكفى القارِنَ ، فلأن يكفيه طوافُ القدوم مع طواف الإفاضة ، وسعى واحد مع أحدهما بطريق الأَوْلى ، لكن عائشة تعذَّر عليها الطواف الأول ، فصارت قصَّتها حُجَّةً ، فإن المرأة التي يتعذَّر عليها الطوافُ الأول ، تفعلُ كما فعلت عائشة ، تُدخِلُ الحَجَّ على العُمْرة ، وتصيرُ قارنةً ، ويكفيها لهما طوافُ الإفاضة والسعىُ عقيبه ‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ‏:‏ ومما يبين أنه صلى اللَّه عليه وسلم لم يَطُفْ طَوافينِ ، ولا سعى سعيين قولُ عائشة رضى اللَّه عنها ‏:‏ وأما الذين جمعوا الحَجَّ والعُمْرة ، فإنما طافوا طوافاً واحداً متفق عليه وقول جابر ‏:‏ لم يطف النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً ، طوافه الأول ‏)‏ ‏(‏رواه مسلم‏)‏ وله لعائشة ‏:‏ ‏(‏ يُجْزِئ عَنْكِ طَوافُكِ بالصَّفَا والمَرْوَةِ عَنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ ‏)‏ ‏(‏رواه مسلم ‏)‏ وقوله لها في رواية أبي داود ‏:‏ ‏(‏ طَوافُكِ بالبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ يَكْفِيكِ لحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ جميعاً ‏)‏‏.‏ وقوله لها في الحديث المتفق عليه لما طافت بالكعبة وبين الصفا والمروة ‏:‏ ‏(‏ قد حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ جميعاً ‏)‏ قال ‏:‏ والصحابة الذين نقلوا حجةَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ‏.‏ كُلُّهم نقلوا أنهم لما طافوا بالبيت وبين الصفا والمروة ، أمرهم بالتحليلِ إلا مَن ساق الهَدْى ‏.‏ فإنه لا يَحلُّ إلا يومَ النَّحْرِ ، ولم يَنْقُلْ أحد منهم أن أحداً منهم طاف وسعى ، ثم طاف وسعى ‏.‏ ومن المعلوم ، أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعى على نقله ‏.‏ فلما لم ينقله أحدٌ من الصحابة ، عُلِمَ أنه لم يكن ‏.‏

وعمدة مَن قال بالطوافين والسعيين ، أثرٌ يرويه الكوفيون ، عن علىّ ، وآخر عن ابن مسعود رضى اللَّه عنهما ‏.‏

وقد روى جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علىّ رضى اللَّه عنه ، أن القارنَ يكفيه طوافٌ واحد ، وسعىٌ واحد ، خلاف ما روى أهل الكوفة ، وما رواه العراقيون ، منه ما هو منقطع ، ومنه ما رجاله مجهولون أو مجروحون ، ولهذا طعن علماءُ النقل في ذلك حتى قال ابنُ حزم ‏:‏ كل ما رُوى في ذلك عن الصحابة ، لا يَصِحُّ منه ولا كلمةٌ واحدة ‏.‏ وقد نُقِلَ في ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم ، ما هو موضوع بلا ريب ‏.‏ وقد حلف طاووس ‏:‏ ما طاف أحدٌ من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لحَجَّته وعُمْرته إلا طوافاً واحداً ، وقد ثبت مثلُ ذلك عن ابن عمر ، وابن عباس ، وجابر ، وغيرهم رضى اللَّه عنهم ، وهُمْ أعلمُ الناس بحَجة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فلم يُخالفوها ، بل هذه الآثار صريحة في أنهم لم يطوفوا بالصَّفَا والمروة إلا مرةً واحدة ‏.‏

وقد تنازع الناسُ في القارن والمتمتع ، هل عليهما سعيان أو سَعىٌ واحد ‏؟‏ على ثلاثة أقوال ‏:‏ في مذهب أحمد وغيره ‏.‏

أحدها ‏:‏ ليس على واحد منهما إلا سعى واحد ، كما نص عليه أحمد في رواية ابنه عبد اللَّه ‏.‏ قال عبد اللَّه ‏:‏ قلت لأبي ‏:‏ المتمتع كم يسعى بين الصفا والمروة ‏؟‏ قال ‏:‏ إن طاف طوافين ، فهو أجود ‏.‏ وإن طاف طوافاً واحداً ، فلا بأس ‏.‏ قال شيخنا ‏:‏ وهذا منقول عن غير واحد من السَلَف ‏.‏

الثانى ‏:‏ المتمتع عليه سعيان والقارن عليه سعى واحد ، وهذا هو القول الثانى في مذهبه ، وقول مَن يقوله من أصحاب مالك والشافعى رحمهما اللَّه ‏.‏

والثالث ‏:‏ أن على كل واحدٍ منهما سعيين ، كمذهب أبى حنيفة رحمه اللَّه ، ويُذكر قولاً في مذهب أحمد رحمه اللَّه ، واللَّه أعلم ‏.‏ والذي تقدَّم هو بسط قول شيخنا وشرحه ‏.‏‏.‏ واللَّه أعلم ‏.‏

فصل‏:‏ في أنه لا عذر البتة فيمن قال إنه صلى الله عليه وسلم حج حجاً مفرداً اعتمر عقيبه من التنعيم

وأما الذين قالوا ‏:‏ إنه حجَّ حجاً مفرِداً اعتمر عقَيبه من التنعيم ، فلا يُعلم لهم عذرٌ البتة إلا ما تقدَّم من أنهم سمعوا أنه أفرد الحج ، وأن عادَة المفردين أن يعتَمِرُوا من التنعيم ، فتوهموا أنه فعل كذلك ‏.‏

فصل‏:‏ فيمن غلط في إهلاله صلى الله عليه وسلم

وأما الذين غلطوا في إهلاله ، فمَن قال ‏:‏ إنه لبَّى بالعُمْرة وحدها واستمر عليها ، فعذرُه أنه سمع أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تمتع ، والمتمتع عنده مَن أهلَّ بعُمْرة مفردة بشروطها ‏.‏ وقد قالت له حفصة رضى اللَّه عنها ‏:‏ ما شأن النَّاسِ حَلُّوا ولم تَحِلَّ مِن عُمرتك ‏؟‏ وكل هذا لا يدل على أنه قال ‏:‏ لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ ، ولم يَنْقُلْ هذا أحد عنه البتة ، فهو وهم محض ، والأحاديثُ الصحيحةُ المستفيضةُ في لفظه في إهلاله تُبْطِلُ هذا ‏.‏

فصل‏:‏ في عذر مَن قال إنه صلى الله عليه وسلم لبَّى بالحج وحده واستمر عليه

وأما مَن قال ‏:‏ إنه لبَّى بالحَجِّ وحده واستمر عليه ، فعذُره ما ذكرنا عمن قال ‏:‏ أفرد الحَجَّ ولبَّى بالحَجِّ ، وقد تقدّم الكلامُ على ذلك ، وأنه لم يقل أحد قط إنه قال ‏:‏ لَبَّيْكَ بحَجَّة مفردة ، وإن الذين نقلوا لفظه ، صرَّحوا بخلاف ذلك ‏.‏

فصل‏:‏ في عذر مَن قال إنه لبَّى بالحج وحده ثم أدخل عليه العُمْرة

وأما مَن قال ‏:‏ إنه لبَّى بالحجِّ وحده ، ثم أدخل عليه العُمْرة ، وظن أنه بذلك تجتمع الأحاديث ، فعذره أنه رأى أحاديث إفراده بالحج صحيحة ، فحملها على ابتداء إحرامه ، ثم إنه أتاه آتٍ من ربِّه تعالى فقال ‏:‏ قل ‏:‏ عُمْرة في حَجة ، فأدخل العُمْرة حينئذ على الحَجِّ ، فصار قارناً ‏.‏ ولهذا قال للبرَّاء بن عازب ‏:‏ ‏(‏ إنِّى سُقْتُ الهَدْىَ وَقَرَنْتُ ‏)‏ ، فكان مفرِداً في ابتداء إحرامه ، قارناً في أثنائه ، وأيضاً فإن أحداً لم يَقُل إنه أهَلَّ بالعُمْرة ، ولا لبَّى بالعُمْرة ، ولا أفرد العُمْرة ، ولا قال ‏:‏ خرجنا لا ننوى إلا العُمْرة ، بل قالوا ‏:‏ أَهلَّ بالحَجِّ ، ولبَّى بالحَجِّ ، وأفرد الحَجَّ ، وخرجنا لا ننوى إلا الحجّ ، وهذا يدل على أن الإحرام وقع أولاً بالحَجَِّ ، ثم جاءه الوحىُ من ربه تعالى بالقِران ، فلبَّى بهما فَسمعه أنس يُلبِّى بهما ، وصدق ، وسمعته عائشةُ ، وابنُ عمر ، وجابر يُلبِّى بالحَجِّ وحده أولاً وصدقوا ‏.‏

قالوا ‏:‏ وبهذا تتفق الأحاديث ، ويزولُ عنها الاضطراب ‏.‏

وأربابُ هذِه المقالة لا يُجيزونَ إدخال العُمْرة على الحج ، ويرونه لغواً ، ويقولون ‏:‏ إن ذلك خاص بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم دون غيره ‏.‏ قالوا ‏:‏ ومما يدل على ذلك ‏:‏ أن ابن عمر قال ‏:‏ لبَّى بالحَجِّ وحده ، وأنس قال ‏:‏ أهلَّ بهما جميعاً ، وكلاهما صادق فلا يمكن أن يكون إهلاله بالقِران سابقاً على إهلاله بالحَجِّ وحده ، لأنه إذا أحرم قارناً ، لم يمكن أن يحْرِم بعد ذلك بحَجٍّ مفرد ، وينقل الإحرام إلى الإفراد ، فتعيَّن أنه أحرم بالحجِّ مُفرِداً ، فسمعه ابنُ عمر ، وعائشة ، وجابر ، فنقلوا ما سَمِعُوه ، ثم أدخل عليه العُمرة ، فأهلَّ بهما جميعاً لما جاءه الوحى من ربه ، فسمِعه أنس يهل بهما ، فنقل ما سمعه ، ثم أخبر عن نفسه بأنه قرن ، وأخبر عنه مَن تقدم ذِكره من الصحابة بالقِران ، فاتفقت أحاديثهم ، وزال عنها الاضطرابُ والتناقضُ ‏.‏ قالوا ‏:‏ ويدلُّ عليه قولُ عائشة ‏:‏ خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ‏.‏ فقال ‏:‏ ‏(‏ مَن أراد منكم أن يُهِلَّ بِحَجٍّ وعُمرةٍ فَلْيُهِلَّ ، وَمَنْ أرادَ أنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ ، ومَنْ أَرادَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ ‏)‏ ‏.‏ قالت عائشةُ ‏:‏ فأهلَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بحج ، وأهلَّ به ناس معه ، فهذا يدل على أنه كان مُفِرداً في ابتداء إحرامه ، فعُلِم أن قِرانه كان بعد ذلك ‏.‏

ولا رَيبَ أن في هذا القولِ من مخالفة الأحاديث المتقدِّمة ، ودعوى التخصيصِ للنبى صلى الله عليه وسلم بإحرام لا يَصحُّ في حقِّ الأُمة ما يردُّه ويُبطله ، ومما يردُّه أن أنساً قال ‏:‏ صلَّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الظهر بالبيداء ، ثم ركب ، وصَعِدَ جبل البيداء ، وأهلَّ بالحَجِّ والعُمْرة حين صلَّى الظهر ‏.‏

وفى حديث عمر، أن الذي جاءهُ مِن ربهِ قال له ‏:‏ ‏(‏ صَلِّ في هَذَا الوَادى المُبارَكِ وقُلْ ‏:‏ عُمْرَةٌ في حَجَّةٍ ‏)‏ ‏.‏ فكذلك فعل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فالذى روى عمر أنه أُمِرَ به ، وروى أنس أنه فعله سواء ، فصلَّى الظُّهر بذى الحُليفة ، ثم قال ‏:‏ ‏(‏ لبيك حَجّاً وعُمْرة ‏)‏ ‏.‏

واختلف الناسُ في جواز إدخالِ العُمرةِ على الحَجِّ على قولين ، وهما روايتان عن أحمد ، أشهرهما ‏:‏ أنه لا يَصِحُّ ، والذين قالوا بالصحِّة كأبى حنيفة وأصحابه رحمهم اللَّه ، بَنَوْه على أُصولهم ، وأن القارِن يطوف طوافين ، ويسعى سعيين ، فإذا أدخل العُمْرة على الحَجِّ ، فقد التزم زيادة عملِ على الإحرام بالحَجِّ وحدَه ، ومَن قال ‏:‏ يكفيه طوافٌ واحد ، وسعىٌ واحد ، قال ‏:‏ لم يستفد بهذا الإدخال إلا سقوط أحد السفرين ، ولم يلتزم به زيادَة عمل ، بل نُقصانه ، فلا يجوز ، وهذا مذهب الجمهور ‏.‏

فصل‏:‏ في عذر القائلين إنه صلى الله عليه وسلم أحرم بعُمْرة ، ثم أدخل عليها الحج

وأما القائلون ‏:‏ إنه أحرم بعُمْرة ، ثم أدخل عليها الحَجَّ ، فعُذرهم قولُ ابنِ عمر ‏:‏ ‏(‏تمتَّع رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم في حَجَّة الوداع بالعُمْرة إلى الحَجِّ ، وأهدى ، فساق معه الهَدْىَ من ذى الحُليفة ، وبدأ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فأ هلَّ بالعُمْرةِ ثم أهلَّ بالحَجِّ ‏)‏ متفق عليه

وهذا ظاهر في أنه أحرم أولاً بالعُمْرة ، ثم أدخل عليها الحَجَّ ، ويُبين ذلك أيضاً أن ابن عمر لما حَجَّ زمن ابن الزبير أهلَّ بعُمرة ثم قال ‏:‏ أُشْهِدُكم أنى قد أوجبتُ حَجّاً مع عُمْرتى ، وأهدى هَدْياً اشتراه بقُدَيْد ، ثم انطلق يُهِلُّ بهما جميعاً حتى قَدِمَ مكة ، فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ، ولم يزد على ذلك ، ولم ينحر ، ولم يحلقْ ولم يُقصِّرْ ، ولم يَحِلَّ من شئ حرم منه حتى كان يوم النحر ، فنحر وحلق ، ورأى أن ذلك قد قضى طوافَ الحَج والعُمْرة بطَوافه الأول ‏.‏ وقال ‏:‏ هكذا فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ‏.‏ فعند هؤلاء ، أنه كان متمتعاً في ابتداء إحرامه ، قارِناً في أثنائه ، وهؤلاء أعذُر مِن الذين قبلهم ، وإدخالُ الحجِّ على العُمرة جائز بلا نزاع يُعرف ، وقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم عائشة رضى اللَّه عنها بإدخال الحج على العُمرة ، فصارت قارِنةً ، ولكن سياقُ الأحاديث الصحيحة ، يردُّ على أرباب هذه المقالة ‏.‏ فإن أنساً أخبر أنه حين صلى الظهر أهلَّ بهما جميعاً، وفى ‏(‏ الصحيح ‏)‏ عن عائشة ، قالت ‏:‏ خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حَجَّة الوداع مُوَافِينَ لهِلال ذى الحِجَّة ، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ مَنْ أَرادَ مِنْكُم أَنْ يُهِلَّ بعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ ، فلوْلاَ أَنِّى أَهْدَيْتُ لأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ ‏)‏ قالت ‏:‏ وكان مِن القوم مَن أهلَّ بعُمْرة ، ومنهم مَن أهلَّ بالحج ، فقالت ‏:‏ فكنت أنا ممن أهلَّ بعُمْرة ‏.‏‏.‏‏.‏ وذكرت الحديث رواه مسلم فهذا صريح في أنه لم يُهِل إذ ذاك بعمرةٍ ، فإذا جمعت بين قولِ عائشة هذا ، وبين قولها في ‏(‏ الصحيح ‏)‏ ‏:‏ تمتع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حَجَّة الوداع ، وبَيْنَ قولهـا ‏:‏ وأهلَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحجِّ ، والكُلُّ في ‏(‏ الصحيح ‏)‏ ، علمتَ أنها إنما نفت عُمْرةً مفردة ، وأنها لم تنف عُمْرة القِران ، وكانوا يُسمونها تمتعاً كما تقدَّم ، وأن ذلك لا يُناقض إهلالَه بالحج ، فإن عُمْرة القِران في ضمنه ، وجزء منه ، ولا يُنافى قولها ‏:‏ أفرد الحَج ، فإن أعمالَ العُمْرة لما دخلت في أعمال الحَج ، وأُفِردَتْ أعمالُه ، كان ذلك إفراداً بالفعل ‏.‏

وأما التلبية بالحَجِّ مفرِداً ، فهو إفراد بالقول ، وقد قيل ‏:‏ إن حديثَ ابنِ عمر ‏:‏ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تمتع في حَجَّة الوداع بالعُمْرة إلى الحَجِّ ، وبدأ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فأهلَّ بالعُمْرة ، ثم أهلَّ بالحَج ، مروى بالمعنى من حديثه الآخر ، وأن ابن عمر هو الذي فعل ذلك عام حَجه في فتنة ابن الزبير ، وأنه بدأ فأهلَّ بالعمرة ، ثم قال ‏:‏ ما شأنُهما إلا واحد ، أُشهِدُكم أنى قد أوجبت حَجّاً مع عُمرتى ، فأهلَّ بهما جميعاً ، ثم قال في آخر الحديث ‏:‏ هكذا فعل رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ‏.‏ وإنما أراد اقتصاره على طواف واحد ، وسَعىٌ واحد ، فَحُمِلَ على المعنى ، ورُوى به ‏:‏ أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم بدأ فأهلَّ بالعُمْرة ، ثم أهلَّ بالحَجِّ ، وإنما الذي فعل ذلك ابنُ عمر ، وهذا ليس ببعيد ، بل متعيِّن ، فإن عائشة قالت عنه ‏:‏ ‏(‏ لولا أن مَعِى الهَدْىَ لأَهَلَلْتُ بِعُمْرَةٍ ‏)‏ وأنس قال عنه ‏:‏ إنه حين صلَّى الظهر ، أوجب حَجَّاً وعُمْرة ، وعمر رضى اللَّه عنه ، أخبر عنه أن الوحى جاءه من ربه فأمره بذلك ‏.‏

فإن قيل ‏:‏ فما تصنعون بقول الزهرى ‏:‏ إن عروة أخبره عن عائشة بمثل حديث سالم ، عن ابن عمر ‏؟‏

قيل ‏:‏ الذي أخبرت به عائشة من ذلك ، هو أنه صلى اللَّه عليه وسلم طاف طوافاً واحداً عن حَجِّه وعُمْرته ، وهذا هو الموافقُ لِرواية عروة عنها في ‏(‏ الصحيحين ‏)‏ ، وطاف الَّذين أهلُّوا بالعُمْرة بالبيت وبينَ الصَّفا والمروة ، ثم حلُّوا ، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من مِنَى لحَجِّهم ، وأما الذين جمعوا الحَجَّ والعُمْرة ، فإنما طافوا طوافاً واحداً ، فهذا مثلُ الذي رواه سالم عن أبيه سواء ‏.‏ وكيف تقول عائشة ‏:‏ إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بدأ فأهلَّ بالعُمرة ، ثم أهلَّ بالحَجِّ ، وقد قالت ‏:‏ إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ ‏(‏ لَوْلاَ أَنَّ مَعِِىَ الهَدْىَ لأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ ‏)‏ وقالت ‏:‏ وأهلَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحَجِّ ‏؟‏ فَعُلِمَ ، أنه صلى اللَّه عليه وسلم لم يُهِلَّ في ابتدء إحرامه بعُمْرة مفردة ‏.‏‏.‏ واللَّه أعلم ‏.‏

فصل‏:‏ فيمن قالوا إنه أحرم إحراماً مطلقاً ، لم يعين فيه نُسُكاً ثم عيَّنه

وأما الذين قالوا ‏:‏ إنَّه أحرم إحراماً مطلقاً ، لم يعيِّن فيه نُسكاً ، ثم عيَّنه بعد ذلك لما جاءه القضاء وهو بين الصَّفَا والمروة ، وهو أحدُ أقوال الشافعى رحمه اللَّه ، نص عليه في كتاب ‏(‏ اختلاف الحديث ‏)‏ ‏.‏ قال ‏:‏ وثبت أنه خرج ينتظر القضاء ، فنزل عليه القضاء وهو ما بين الصَّفَا والمروة ، فأمر أصحابَه أن مَن كان منهم أهلَّ ولم يكن معه هَدْى أن يجعله عُمْرةً ، ثم قال ‏:‏ ومن وصف انتظار النبى صلى الله عليه وسلم القضاء ، إذ لم يحج من المدينة بعد نزول الفرض طلباً للاختيار فيما وسَّع اللَّه من الحَجِّ والعُمْرة ، فيُشبه أن يكون أحفظ ، لأنه قد أُتى بالمتلاعِنَيْنِ ، فانتظر القضاء ، كذلك حُفِظَ عنه في الحَجِّ ينتظِرُ القضاء ، وعذر أرباب هذا القول ، ما ثبت في ‏(‏ الصحيحين ‏)‏ عن عائشة رضى اللَّه عنها ، قالت ‏:‏ ‏(‏ خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا نذكر حَجّاً ولا عُمْرة ‏)‏ وفى لفظ ‏:‏ ‏(‏ يُلَبِّى لا يذكر حَجّاً ولا عُمْرة ‏)‏ وفى رواية عنها ‏:‏ ‏(‏ خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا الحَجَّ ، حتى إذا دنونا من مكة أمر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم مَنْ لم يكن معه هَدْى إذا طاف بالبيت وبين الصَّفَا والمروة أن يَحِلَّ ‏)‏ ‏.‏

وقال طاووس ‏:‏ خرج رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم من المدينة لا يُسمِّى حَجّاً ولا عُمْرة ينتظِرُ القضاءَ ، فنزل عليه القضاءُ وهو بين الصَّفَا والمروة ، فأمر أصحابَه مَن كان منهم أهلَّ بالحَجِّ ولم يكن معه هَدْى أن يجعلها عُمْرة ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديثَ ‏.‏

وقال جابر في حديثه الطويل في سياق حَجَّة النبى صلى الله عليه وسلم ‏:‏ فصلَّى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المسجد ، ثم ركب القَصْواءَ حتى إذا استوت به ناقتُه على البيداءِ نَظرتُ إلى مدِّ بصرى بين يديه من راكب وماشٍ ، وعن يمينه مثلُ ذلك ، وعن يَسارِه مثلُ ذلك ، ومِنْ خلفه مِثلُ ذلك ، ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أظهُرِنا ، وعليه يَنْزِلُ القرآنُ وهو يعلم تأويلَه ، فما عَمِلَ به من شئ ، عَمِلْنَا بِهِ ، فأهلَّ بالتوحيدِ ‏:‏ ‏(‏ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ ، إنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ والمُلْكَ ، لا شَريكَ لَكَ ‏)‏ ‏.‏ وأهلَّ الناسُ بهذا الذي يُهِلُّون به، ولَزِمَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم تلبيتُه فأخبر جابر ، أنه لم يزد على هذه التلبية ، ولم يذكرُ أنه أضاف إليها حَجّاً ولا عُمْرة ، ولا قِراناً ، وليس في شئ من هذه الأعذار ما يُناقض أحاديث تعيينه النُّسُكَ الذي أحرم به في الابتداء ، وأنه القِران ‏.‏

فأما حديثُ طاووس ، فهو مرسَل لا يُعارَضُ به الأساطينُ المسندَاتُ ، ولا يُعرف اتصاله بوجه صحيح ولا حسن ‏.‏ ولو صح ، فانتظارُه للقضاء كان فيما بينه وبين الميقات ، فجاءه القضاء وهو بذلك الوادى ، أتاه آتٍ مِنْ ربه تعالى فقال ‏:‏ ‏(‏ صَلِّ في هَذَا الوَادى المُبَارَكِ وَقُلْ ‏:‏ عُمْرَةٌ في حَجَّةٍ ‏)‏ ، فهذا القضاءُ الذي انتظره ، جاءه قبل الإحرام ، فعيَّن له القِرانَ ‏.‏ وقول طاووس ‏:‏ نزل عليه القضاءُ وهو بين الصَّفَا والمروة ، هو قضاء آخر غير القضاء الذي نزل عليه بإحرامه ، فإن ذلك كان بوادى العقيق ، وأما القضاءُ الذي نزل عليه بين الصَّفا والمروة ، فهو قضاءُ الفسخ الذي أمرَ به الصحابةَ إلى العُمْرة ، فحينئذ أمر كُلَّ مَنْ لم يكن معه هَدْى منهم أن يفسَخَ حَجَّهُ إلى عُمْرة وقال ‏:‏ ‏(‏ لو اسْتَقْبَلْتُ منْ أمْرِى ما اسْتَدْبَرْتُ لما سُقْتُ الهَدْى وَلَجَعَلْتُها عُمْرَةً ‏)‏ ، وكان هذا أمرَ حتم بالوحى ، فانهم لما توقَّفوا فيه قال ‏:‏ ‏(‏ انظُرُوا الذي آمرُكُمْ بِهِ فَاْفعَلُوه ‏)‏ ‏.‏

فأما قول عائشة ‏:‏ خرجنا لا نذكر حَجّاً ولا عُمْرة ‏.‏ فهذا إن كان محفوظاً عنها ، وجب حمله على ما قبل الإحرام ، وإلا ناقض سائر الروايات الصحيحة عنها ، أن منهم مَن أهلَّ عند الميقات بحَجٍّ ، ومنهم مَنْ أهلّ بعُمْرة ، وأنها ممن أهلَّ بعُمْرة ‏.‏ وأما قولها ‏:‏ نلبِّى لا نذكر حَجّاً ولا عُمْرة ، فهذا في ابتداء الإحرام ، ولم تقل ‏:‏ إنهم استمروا على ذلك إلى مكة ، هذا باطل قطعاً فإن الذين سمعوا إحرامَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وما أهلَّ به ، شهدوا على ذلك ، وأخبروا به ، ولا سبيل إلى رد رواياتهم ‏.‏ ولو صح عن عائشةَ ذلك ، لكان غايتُه أنها لم تحفظ إهلالهم عند الميقات ، فنفته وحفظه غيرها من الصحابة فأثبته ، والرجالُ بذلك أعلمُ من النساء ‏.‏

وأما قول جابر رضى اللَّه عنه ‏:‏ وأهلَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالتوحيد ، فليس فيه إلا إخبارُه عن صفة تلبيته ، وليس فيه نفىٌ لتعيينه النُّسُكَ الذي أحرم به بوجه من الوجوه ‏.‏ وبكل حال ، ولو كانت هذه الأحاديث صريحة في نفى التعيين ، لكانت أحاديثُ أهلِ الإثبات أولى بالأخذ منها ، لكثرتها ، وصحتها ، واتصالها ، وأنها مُثْبِتَة مبيِّنة متضمنة لزيادة خفيت على مَن نفى ، وهذا بحمد اللَّه واضح ، وباللَّه التوفيق ‏.‏

فصل

ولنرجع إلى سياق حَجَّته صلى اللَّه عليه وسلم

ولبَّد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأسه بالغِسْل وهو بالغين المعجمة على وزن كِفلٍ وهو ما يُغسل به الرأس مِن خَطْمِىٍّ ونحوه يُلبَّدُ به الشعر حتى لا ينتشِر ، وأهلَّ في مُصلاه ، ثم ركب على ناقته ، وأهلَّ أيضاً ، ثم أهلَّ لما استقلَّت به على البيداء ‏.‏ قال ابن عباس ‏:‏ وايمُ اللَّه ‏.‏‏.‏ لقد أوجب في مصلاه ، وأهلَّ حين استقلت به ناقته ، وأهلَّ حين علا على شرف البيداء ‏.‏

وكان يُهِلَّ بالحَجِّ والعُمرة تارة ، وبالحَجِّ تارة ، لأن العُمْرة جزء منه ، فمن ثَمَّ قيل ‏:‏ قَرَنَ ، وقيل ‏:‏ تمتع ، وقيل ‏:‏ أفرد ، قال ابن حزم ‏:‏ كان ذلك قبلَ الظُّهر بيسير ، وهذا وهم منه ، والمحفوظُ ‏:‏ أنه إنما أهلَّ بعد صلاة الظهر ، ولم يقل أحد قط إن إحرَامه كان قبل الظهر ، ولا أدرى من أين له هذا ‏.‏ وقد قال ابنُ عمر ‏:‏ ما أهلَّ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلا مِن عند الشجرة حين قام به بعيرُه ‏.‏ وقد قال أنس ‏:‏ إنه صلَّى الظهرَ ، ثم ركب ، والحديثان في ‏(‏ الصحيح ‏)‏ ‏.‏

فإذا جمعت أحدَهما إلى الآخر ، تبيَّن أنَّه إنما أهلَّ بعدَ صلاةِ الظُّهر ، ثم لبَّى فقال ‏:‏ ‏(‏ لبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيك لا شَريكَ لَكَ لَبَّيْكَ ، إنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ والمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ ‏)‏ ‏.‏ ورفع صوتَه بهذه التلبيةِ حتى سَمِعَها أصحابُه ، وأمرَهم بأمر اللَّه له أن يرفعُوا أصواتَهم بالتلبية ‏.‏

وكان حَجَّه على رَحْل ، لا في مَحْمِلٍ ، ولا هَوْدَج ، ولا عمَّارِية وزَامِلتُه تحته ‏.‏ وقد اختُلِف في جواز ركوبِ المُحْرِم في المَحْمِلِ ، والهَوْدَجِ ، والعَمَّارِية ، ونحوها على قولين ، هما روايتان عن أحمد أحدهما ‏:‏ الجوازُ وهو مذهبُ الشافعى وأبى حنيفة ‏.‏ والثانى ‏:‏ المنع وهو مذهب مالك ‏.‏

فصل

ثم إنَّه صلى اللَّه عليه وسلم خيَّرهم عند الإحرام بين الأنساكِ الثلاثة ، ثم ندبَهم عند دُنوِّهم من مكة إلى فسخ الحَج والقِران إلى العُمْرة لمن لم يكن معه هَدْىٌ ، ثم حتَّم ذلك عليهم عند المروةِ ‏.‏

وولَدَتْ أسماءُ بِنتُ عُميسٍ زوجةُ أبى بكر رضى اللَّه عنها بذى الحُليفة محمَّدَ بن أبى بكر ، فأمرها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن تغتسِلَ ، وتَسْتَثْفِرَ بثوب ، وتُحرم وتُهِلَّ ‏.‏ وكان في قِصتها ثلاثُ سُنن ، إحداها ‏:‏ غسلُ المحرم ، والثانية ‏:‏ أن الحائضَ تغتسِل لإحرامها ، والثالثة ‏:‏ أن الإحرام يَصِحُّ مِن الحائض ‏.‏

ثم سار رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يُلبِّى بتلبيتِه المذكورةِ ، والناسُ معه يزيدُون فيها ويَنقُصُون ، وهو يُقِرُّهم ولا يُنكِرُ عليهم ‏.‏

ولزم تلبيتَه ، فلما كانُوا بالرَّوحاء ، رأى حِمار وحْشٍ عَقيراً ، فقال ‏:‏ ‏(‏دَعوه فإنَّه يُوشِكُ أَنْ يَأتىَ صَاحِبُه ‏)‏ فَجاء صَاحِبُه إلىَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ،فَقَالَ ‏:‏ يا رسُولَ اللَّه ، شَأْنَكُم بِهَذَا الحِمارِ ، فَأَمرَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ فَقَسَمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ ‏.‏

وفى هذا دليل على جواز أكلِ المُحْرِمِ مِن صيد الحَلال إذا لم يَصِدْه لأجله ، وأما كونُ صاحبه لم يُحْرِم ، فلعلَّه لم يمرَّ بذى الحُليفة ، فهو كأبى قتادة في قصته، وتدل هذه القصةُ على أن الهِبة لا تفتقِرُ إلى لفظ ‏:‏ وهبتُ لك ، بل تَصِحُّ بما يَدُلُّ عليها ، وتدل على قسمته اللحم مع عظامه بالتحرِّى ، وتَدُلُّ على أن الصيدَ يُملَكُ بالإثبات ، وإزالة امتناعه ، وأنه لمن أثبته لا لمن أخذه ، وعلى حِلِّ أكلِ لحم الحِمار الوحشى ، وعلى التوكيل في القِسمة ، وعلى كون القاسم واحداً ‏.‏

فصل

ثم مضى حتى إذا كان بالأُثَايةِ بين الرُّويثَةِ والعَرْجِ ، إذا ظبىٌ حَاقِفٌ في ظِلٍّ فيه سهم ، فأمر رجلاً أن يقف عنده لا يَرِيبُه أحدٌ من الناس ، حتى يُجاوِزوا ‏.‏ والفرقُ بين قصة الظبى ، وقصةِ الحمار ، أن الذي صاد الحمار كان حلالاً ، فلم يمنع من أكله ، وهذا لم يعلم أنه حلال وهم محرِمون ، فلم يأذنْ لهم في أكله ، ووكَّل مَن يَقِفُ عنده ، لئلا يأخذه أحدٌ حتى يُجاوزوه ‏.‏

وفيه دليل ‏:‏ على أن قتلَ المُحْرِم للصيد يجعلُه بمنزلة الميتة في عدم الحِلِّ ، إذ لو كان حلالاً ، لم تَضِعْ مالِيَّتُه ‏.‏

فصل

ثم سار حتى إذا نزل بالعَرْجِ ، وكانت زِمالتُه وزِمَالَةُ أبى بكر واحدة ، وكانت مع غلام لأبى بكر ، فجلس رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى جانبه ، وعائشةُ إلى جانبه الآخر ، وأسماءُ زوجته إلى جانبه ، وأبو بكر ينتظِر الغلام والزمالة ، إذ طلع الغلام ليس معه البعير ، فقال ‏:‏ أين بعيرُك ‏؟‏ فقال ‏:‏ أضللتُه البارحة ، فقال أبو بكر ‏:‏ بعير واحد تُضِلُّه ‏.‏ قال ‏:‏ فَطفِق يضربُه ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يتبسَّم ، ويقول ‏:‏ انظُروا إلى هذا المُحْرِم ما يصنَعُ ، وما يزيد رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم على أن يقول ذلك ويتبسم ‏.‏ ومن تراجم أبى داود على هذه القصة ، باب ‏(‏ المحرم يؤدِّب غلامه ‏)‏ ‏.‏

فصل

ثم مضى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان بالأبواءِ ، أهدى له الصَّعبُ بن جَثَّامَةَ عَجُزَ حِمَارٍ وحشىٍّ ، فردَّه عليه ، فقال ‏:‏ ‏(‏ إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلاَّ أَنَّا حُرُمٌ‏)‏‏.‏ وفى ‏(‏ الصحيحين ‏)‏ ‏:‏ ‏(‏ أنه أهدى له حِماراً وحشياً ‏)‏ ، وفى لفظ لمسلم‏:‏ ‏(‏ لحم حمار وحْشٍ ‏)‏ ‏.‏

وقال الحُميدى ‏:‏ كان سفيانُ يقولُ في الحديث ‏:‏ أُهْدِىَ لرسولِ الله صلى اللَّه عليه وسلم لحمُ حِمار وحْشٍ ، وربما قال سفيان ‏:‏ يقطُرُ دماً ، وربما لم يقُلْ ذلك، وكان سفيان فيما خلا ربما قال ‏:‏ حِمارَ وحش ، ثم صار إلى لحم حتَّى مات ‏.‏ وفى رواية ‏:‏ شقَّ حِمارِ وحشٍ ، وفى رواية ‏:‏ رِجل حمار وحشٍ ‏.‏

وروى يحيى بن سعيد ، عن جعفر ، عن عمرو بن أُميَّة الضَّمْرِى عن أبيه ، عن الصَّعبِ ، أُهدى للنبى صلى الله عليه وسلم عَجُزَ حِمارِ وحْشٍ وهو بالجُحفة ، فأكل منه وأكل القوم ‏.‏ قال البيهقى ‏:‏ وهذا إسناد صحيح ‏.‏ فإن كان محفوظاً ، فكأنه ردَّ الحى ، وقبل اللَّحم ‏.‏

وقال الشافعى رحمه اللَّه ‏:‏ فإن كان الصَّعبُ بن جَثَّامة أهدى للنبى صلى الله عليه وسلم الحمارَ حيًّّاً ، فليس للمُحْرِم ذبحُ حمار وحش ، وإن كان أهدى له لحم الحمار ، فقد يحتمِلُ أن يكون علم أنه صِيد له ، فردَّه عليه ، وإيضاحه في حديث جابر ‏.‏ قال ‏:‏ وحديثُ مالك ‏:‏ أنه أُهدى له حماراً أثبتُ من حديث مَن حدَّث أنه أُهدى له من لحم حمار ‏.‏

قلت ‏:‏ أما حديث يحيى بن سعيد ، عن جعفر ، فغلط بلا شك ، فإن الواقعةَ واحدة ، وقد اتفق الرواةُ أنه لم يأكل منه ، إلا هذه الرواية الشاذَّة المنكرة ‏.‏

وأما الاختلافُ في كون الذي أهداه حيَّا ، أو لحماً ، فرواية مَن روى لحماً أولى لثلاثة أوجه ‏.‏

أحدها ‏:‏ أن راويها قد حفظها ، وضبطَ الواقعةَ حتى ضبطها ‏:‏ أنه يقطر دماً ، وهذا يدل على حفظه للقصة حتى لهذا الأمر الذي لا يُؤبه له ‏.‏

الثانى ‏:‏ أن هذا صريح في كونه بعضَ الحِمار ، وأنه لحم منه ، فلا يُناقض قوله ‏:‏ أُهدى له حماراً ، بل يُمكن حمله على رواية مَن روَى لحماً ، تسمية للحم باسم الحيوان ، وهذا مما لا تأباه اللغة ‏.‏

الثالث ‏:‏ ‏:‏ أن سائر الروايات متفقة على أنه بعض من أبعاضه ، وإنَّما اختلفوا في ذلك البعض ، هل هو عجزُه ، أو شِقُّه ، أو رِجله ، أو لحم منه ‏؟‏ ولا تناقضَ بين هذه الروايات ، إذ يمكن أن يكون الشِّق هو الذي فيه العَجُز ، وفيه الرِّجل ، فصح التعبيرُ عنه بهذا وهذا ، وقد رجع ابنُ عيينة عن قوله ‏:‏ ‏(‏ حماراً ‏)‏ وثبت على قوله ‏:‏ ‏(‏ لحم حمار ‏)‏ حتى مات ‏.‏ وهذا يدل على أنه تبيَّن له أنه إنما أُهدى له لحماً لا حيواناً ، ولا تعارض بين هذا وبين أكله لما صاده أبو قتادة ، فإنَّ قصة أبى قتادة كانت عام الحُديبية سنة ست ، وقصة الصَّعب قد ذكر غيرُ واحد أنها كانت في حَجَّة الوداع ، منهم ‏:‏ المحبُّ الطبرى في كتاب ‏(‏ حجة الوداع ‏)‏ له ‏.‏ أو في بعض عُمَره وهذا مما يُنظر فيه ‏.‏ وفى قصة الظبى وحمار يزيد بن كعب السلمى البَهزى ، هل كانت في حَجَّة الوداع ، أو في بعض عُمَره واللَّه أعلم ‏؟‏ فإن حُمِل حديثُ أبى قتادة على أنه لم يصده لأجله ، وحديث الصَّعب على أنه صيد لأجله ، زال الإشكالُ ، وشهد لذلك حديث جابر المرفوع ‏:‏ ‏(‏ صَيْدُ البَرِّ لَكُم حَلالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَادُ لَكُمْ ‏)‏ ‏.‏ وإن كان الحديثُ قد أُعِلَّ بأن المطلب ابن حنطب راويه عن جابر لا يُعرف له سماع منه ، قاله النسائى ‏.‏

قال الطبرى في ‏(‏ حَجة الوداع ‏)‏ له ‏:‏ فلما كان في بعض الطريق ، اصطاد أبو قتادة حماراً وحشياً ، ولم يكن مُحرماً ، فأحلَّه النبى صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعد أن سألهم ‏:‏ هل أمره أحد منكم بشئ ، أو أشار إليه ‏؟‏ وهذا وهم منه رحمه اللَّه ، فإن قِصة أبى قتادة إنما كانت عام الحُديبية ، هكذا روى في ‏(‏ الصحيحين ‏)‏ من حديث عبد اللَّه ابنه عنه قال ‏:‏ انطلقنا مع النبىِّ صلى الله عليه وسلم عامَ الحُديبية ، فأحرم أصحابُه ولم أحرِم ، فذكر قِصة الحمار الوحشى ‏.‏

فصل

فلما مرَّ بوادى عُسْفَان ‏:‏ قال ‏:‏ ‏(‏ يا أبا بكر ؛ أىُّ وادٍ هذا ‏)‏ ‏؟‏ قال ‏:‏ وادى عُسْفان ‏.‏ قال ‏:‏ ‏(‏ لقد مَرَّ به هُودٌ وصَالِحٌ على بَكْرَيْنِ أَحْمَرَيْن خُطُمُهُما اللِّيفُ وَأُزُرُهُم العبَاءُ ، وأرْدِيتُهُم النِّمارُ ، يُلَبُّونَ يَحَجُّونَ البَيْتَ العَتِيقَ ‏)‏ ذكره الإمام أحمد في المسند

فلما كان بَسَرِفَ ، حاضت عائشةُ رضى اللَّه عنها ، وقد كانت أهلَّت بعُمْرة ، فدخل عليها النبىُّ صلى الله عليه وسلم وهى تبكى ، قال ‏:‏ ‏(‏ ما يُبْكِيكِ ‏؟‏ لَعَلَّكِ نَفِسْتِ ‏)‏ ‏؟‏ قالت ‏:‏ نَعَمْ ، قال ‏:‏ ‏(‏ هَذَا شئٌ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ ، افْعَلى مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ ، غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفى بالبَيْتِ ‏)‏ ‏.‏

وقد تنازع العلماءُ في قصة عائشة ‏:‏ هل كانت متمتعة أو مفرِدة ‏؟‏ فإذا كانت متمتعةً ، فهل رفضت عُمْرتَها ، أو انتقلت إلى الإفراد ، وأدخلت عليها الحَجَّ ، وصارت قارنةً ، وهل العُمرة التي أتت بها مِن التنعيم كانت واجبة أم لا ‏؟‏ وإذا لم تكن واجبةً ، فهل هي مُجزِئةٌ عن عُمْرة الإسلام أم لا ‏؟‏ واختلفوا أيضاً في موضع حيضها ، وموضع طُهرها ، ونحن نذكر البيان الشافى في ذلك بحول اللَّه وتوفيقه ‏.‏

واختلف الفقهاءُ في مسألة مبنية على قصة عائشة ، وهى أن المرأة إذا أحرمت بالعُمْرة ، فحاضت ، ولم يُمكنها الطوافُ قبلَ التعريفِ ، فهل ترفُضُ الإحرامَ بالعُمْرة ، وتُهِلُّ بالحَجِّ مفرداً ، أو تُدخل الحج على العُمْرة وتصير قارِنة ‏؟‏ فقال بالقول الأول ‏:‏ فقهاءُ الكُوفة ، منهم أبو حنيفة وأصحابه ، وبالثانى ‏:‏ فقهاء الحجاز ‏.‏ منهم ‏:‏ الشافعى ومالك ، وهو مذهبُ أهل الحديث كالإمام أحمد وأتباعه ‏.‏

قال الكوفيون ‏:‏ ثبت في ‏(‏ الصحيحين ‏)‏ ، عن عُروة ، عن عائشة ، أنها قالت ‏:‏ ‏(‏ أهللتُ بعُمْرة ، فقدِمتُ مكَّةَ وأنا حائِض لم أَطُفْ بالبَيْتِ ولا بين الصفا والمروة ، فشكوتُ ذلك إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ، فقال ‏:‏ ‏(‏ انقُضِى رَأسَكِ ، وامْتَشِطِى ، وأَهلِّى بالحَجِّ ، ودَعِى العُمْرَةَ ‏)‏ ‏.‏ قَالَتْ ‏:‏ فَفَعَلْتُ فَلَّما قَضَيْتُ الحَجَّ ، أرْسَلَنى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ عَبْدِ الرَّحمنَ بْنِ أبى بَكْرٍ إلَى التَّنْعِيمِ ، فَاعْتَمَرْتُ مِنْه ‏.‏ فَقَالَ ‏:‏ ‏(‏ هذِهِ مَكَانُ عُمْرَتِك ‏)‏ ‏.‏ قالوا ‏:‏ فهذا يدلُّ على أنها كانت متمتعة ، وعلى أنها رفضت عُمْرتها وأحرمَتْ بالحَجِّ ، لقوله صلى اللَّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ دعى عُمْرَتَكِ ‏)‏ ولقوله ‏:‏ ‏(‏ انقُضى رَأسَكِ وامْتَشِطِى ‏)‏ ، ولو كانت باقية على إحرامها ، لما جاز لها أن تمتشِطَ ، ولأنه قال للعُمْرة التي أتت بها من التنعيم ‏:‏ ‏(‏ هذه مكانُ عُمْرَتِكِ ‏)‏ ‏.‏ ولو كانت عُمْرَتُها الأولى باقية ، لم تكن هذه مكانَها ، بل كانت عُمْرةً مستقلةً ‏.‏

قال الجمهور ‏:‏ لو تأملتم قِصةَ عائشة حقَّ التأمُّلِ ، وجمعتُم بين طرقها وأطرافها ، لتبيَّن لكم أنها قرنت ، ولم ترفُضِ العُمْرة ، ففى ‏(‏ صحيح مسلم ‏)‏ ‏:‏ عن جابر رضى اللَّه عنه ، قال ‏:‏ أهلَّت عائشة بعُمْرة ، حتى إذا كانت بِسَرِفَ ، عَرَكَتْ ، ثم دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على عائشة ، فوجدها تبكى ، فقال ‏:‏ ‏(‏ ما شأنُكِ ‏)‏ ‏؟‏ قالت ‏:‏ شأنى أنى قد حِضتُ وقد أَحلَّ الناس ، ولم أَحِلَّ ، ولم أطُفْ بِالبَيْتِ وَالنَّاسُ يَذْهَبُونَ إلى الحَجِّ الآنَ ، قال ‏:‏ ‏(‏ إنَّ هذَا أمر قد كَتَبَهُ اللَّهُ على بَناتِ آدَمَ ، فاغْتَسِلى ، ثُمَّ أَهلِّى بالحَجِّ ‏)‏ ففعلت ، ووقفتِ المواقِف كُلَّها ، حتى إذا طهُرت ، طافت بالكعبةِ وبالصّفا والمروة ‏.‏ ثم قال ‏:‏ ‏(‏ قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وعُمْرَتكِ ‏)‏ قالت ‏:‏ يا رسولَ اللَّه إنى أَجِدُ في نفسى أنى لم أطف بالبيت حتى حججتُ ‏.‏ قال ‏:‏ ‏(‏ فاذَْهَبْ بِها يا عَبْدَ الرَّحْمَن فَأعْمِرْها مِنَ التَّنْعِيمِ ‏)‏ ‏.‏

وفى ‏(‏ صحيح مسلم ‏)‏ ‏:‏ من حديث طاووس عنها ‏:‏ أهللتُ بعُمرة ، وقَدِمْتُ ولم أَطُفْ حتَّى حِضْتُ ، فَنَسَكْتُ المَناسِكَ كُلَّها ، فقالَ لها النبىُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّفر ‏:‏ ‏(‏ يَسَعُكِ طَوَافُكِ لَحِجِّكِ وعُمْرَتِكِ ‏)‏ ‏.‏

فهذه نصوص صريحة ، أنها كانت في حَجٍّ وعُمْرة ، لا في حَجٍّ مفرد ، وصريحة في أن القارِن يكفيه طوافٌ واحد ، وسعىٌ واحِد ، وصريحةٌ في أنها لم ترفُضْ إحرامَ العُمْرة ، بل بقيت في إحرامها كما هي لم تَحِلَّ منه ‏.‏ وفى بعض ألفاظ الحديث ‏:‏ ‏(‏ كونى في عُمْرَتِك ، فَعَسى اللَّهُ أنْ يَرزُقَكيها ‏)‏ ‏.‏ ولا يناقض هذا قوله ‏:‏ ‏(‏ دَعى عُمْرَتَكِ ‏)‏ ‏.‏ فلو كان المرادُ به رفضَها وتركَها ، لما قال لها ‏:‏ ‏(‏ يسعُكِ طوافُكِ لِحَجِّك وعُمرتِكِ ‏)‏ ، فعُلِم أن المراد ‏:‏ دعى أعمالها ليس المرادُ به رفضَ إحرامها ‏.‏

وأما قوله ‏:‏ ‏(‏ انقُضِى رَأْسَكِ وامتَشِطِى ‏)‏ ، فهذا مما أعضل على الناس ، ولهم فيه أربعة مسالك ‏:‏

أحدُها ‏:‏ أنه دليل على رفض العُمْرة ، كما قالت الحنفية ‏.‏

المسلك الثانى ‏:‏ أنه دليلٌ على أنه يجوز للمُحْرِم أن يمشُط رأسه ، ولا دليلَ من كتاب ولا سُّـنَّة ولا إجماع على منعه من ذلك ، ولا تحريمهِ وهذا قولُ ابن حزم وغيره ‏.‏

المسلك الثالث ‏:‏ تعليلُ هذه اللفظة ، وردُّها بأن عروةَ انفرد بها ، وخالف بها سائرَ الرواة ، وقد روى حديثَها طاووس والقاسم والأسود وغيرهم ، فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظة ‏.‏ قالوا ‏:‏ وقد روى حماد بن زيد ، عن هشام ابن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، حديثَ حيضها في الحج فقال فيه ‏:‏ حدَّثنى غيرُ واحد ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لها ‏:‏ ‏(‏ دَعِى عُمْرَتَكِ وَانْقُضِى رَأْسَكِ وَاْمتَشِطِى َ‏)‏ وذكر تمام الحديث ، قالوا ‏:‏فهذا يدلُّ على أن عروة لم يسمع هذه الزيادة من عائشة ‏.‏

المسلك الرابع ‏:‏ أن قوله ‏:‏ ‏(‏ دَعِى العُمْرَةَ ‏)‏ ، أى دَعِيها بحالها لا تخرجى منها ، وليس المرادُ تركَها ، قالوا ‏:‏ ويدل عليه وجهان ‏:‏

أحدُهما ‏:‏ قوله ‏:‏ ‏(‏ يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِك ‏)‏ ‏.‏

الثانى ‏:‏ قوله ‏:‏ ‏(‏ كونى في عُمرَتِكِ ‏)‏ ‏.‏ قالوا ‏:‏ وهذا أولى مِن حمله على رفضها لسلامته من التناقض ‏.‏ قالوا ‏:‏ وأما قولُه ‏:‏ ‏(‏ هذِه مَكَانُ عُمْرَتِكِ ‏)‏ فعائشة أحبَّت أن تأتى بعُمْرة مفردة ، فأخبرها النبى صلى الله عليه وسلم أن طوافَها وقع عن حَجَّتها وعُمْرتها ، وأن عُمْرتها قد دخلت في حَجِّها ، فصارت قارنة ، فأبت إلا عُمْرةً مفردةً كما قصدت أولاً ، فلما حصل لها ذلك ، قال ‏:‏ ‏(‏ هذِه مَكَانُ عُمْرَتِكِ ‏)‏ ‏.‏

وفى سنن الأثرم ، عن الأسود ، قال ‏:‏ قلتُ لِعائشة ‏:‏ اعتمرتِ بَعْدَ الحَجّ‏؟‏ قالت ‏:‏ واللَّهِ ما كانت عُمْرةٍ ، ما كانت إلا زيارةً زُرتُ البَيْتَ ‏.‏

قال الإمام أحمد ‏:‏ إنما أعمر النبىُّ صلى الله عليه وسلم عائشةَ حين ألحَّت عليه ، فقالت ‏:‏ يَرْجِعُ الناسُ بنُسُكين ، وأرجِعُ بِنُسُكٍ ‏؟‏، فقال ‏:‏ ‏(‏ يا عبد الرحمن ، أعْمِرْها ‏)‏ فنظر إلى أدنى الحِلِّ ، فأعمرها مِنْه ‏.‏

فصل‏:‏ في اختلاف الناس فيما أحرمت به عائشة أولاً

واختلف الناسُ فيما أحرمت به عائشة أولاً على قولين ‏:‏

أحدهما ‏:‏ أنه عُمرة مفردة ، وهذا هو الصواب لِما ذكرنا من الأحاديث ‏.‏ وفى ‏(‏الصحيح ‏)‏ عنها ، قالت ‏:‏ خرجنا معَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الودَاع مُوافين لهلال ذى الحِجَّةِ ، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ مَنْ أرادَ مِنْكُم أن يُهِلَّ بِعُمْرَة ، فَلْيُهِلَّ فَلَوْلاَ أنِّى أَهْدَيْتُ لأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ ‏)‏ ‏.‏ قالت ‏:‏ وَكان مِنَ القَوْمِ مَنْ أهلَّ بِعُمْرَةٍ ، ومِنْهُمْ مَنْ أَهَلَّ بالحَجِّ ، قَالت ‏:‏ فكُنْتُ أنَا مِمَّنْ أَهَلَّ بعُمْرَةٍ ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏)‏ ، وَذكَرَتِ الحَدِيثَ ‏.‏ وقوله في الحديث ‏:‏ ‏(‏ دَعِى العُمْرَةَ وأهِلِّى بالحَجِّ ‏)‏ قاله لها بِسَرِفَ قريباً من مكة وهو صريح في أن إحرامها كان بعُمْرة ‏.‏

القول الثانى ‏:‏ أنها أحرمت أولاً بالحَجِّ وكانت مُفرِدة ، قال ابنُ عبد البَرِّ ‏:‏ روى القاسِمُ بنُ محمد ، والأسودُ بن يزيد ، وعَمْرَةُ كلُّهم عن عائشة ما يَدُلّ على أنها كانت مُحْرِمة بحَجٍّ لا بعُمْرة ، منها ‏:‏ حديثُ عَمرة عنها ‏:‏ خرجنا مع رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، لا نرى إلا أنَّه الحَجُّ ، وحديثُ الأسود بن يزيد مثله ، وحديث القاسم ‏:‏ ‏(‏ لبَّينَا مَعَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالحَجِّ ‏.‏ قال ‏:‏ وغلَّطوا عُروة في قوله عنها ‏:‏ ‏(‏ كُنْتُ فِيمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ ‏)‏ ، قال إسماعيل بن إسحاق ‏:‏ قد اجتمعَ هؤلاء يعنى الأسودَ ، والقاسم ، وعَمرة على الروايات التي ذكرنا ، فعلمنا بذلك أن الروايات التي رُويت عن عُروة غلط ، قال ‏:‏ ويُشبه أن يكون الغلطُ ، إنما وقع فيه أن يكون لم يُمكنها الطوافُ بالبيت ، وأن تَحِلَّ بعُمرةٍ كما فعل مَن لم يَسُقِ الهَدْىَ ، فأمرها النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن تتركُ الطَّوافَ ، وتمضى على الحَجِّ ، فتوهَّمُوا بهذا المعنى أنها كانت معتمِرة ، وأنها تركت عُمْرتَها ، وابتدأت بالحَجِّ ‏.‏ قال أبو عمر ‏:‏ وقد روى جابرُ بن عبد اللَّه ، أنها كانت مُهٍلَّةً بعُمْرةٍ ، كما روى عنها عُروة ‏.‏ قالوا ‏:‏ والغلطُ الذي دخل على عُروة ، إنما كان في قوله ‏:‏ ‏(‏ انقُضِى رَأْسَكِ ، وامْتَشِِطى ، وَدَعِى العُمْرَة ، وأهِلِّى بالحَجِّ ‏)‏ ‏.‏

وروى حماد بن زيد ، عن هِشام بن عُروة ، عن أبيه ‏:‏ حدَّثنى غيرُ واحد ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لها ‏:‏ ‏(‏ دَعِى عُمْرَتَكِ ، وانْقُضِى رَأْسَكِ ، وامْتَشِطِى ، وافْعَلى مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ ‏)‏ ‏.‏ فبيَّن حماد ، أن عُروة لم يسمع هذا الكلام من عائشة ‏.‏

قلت ‏:‏ مِن العجب ردّ هذه النصوصِ الصحيحةِ الصريحةِ التي لا مدفع لها ، ولا مطعنَ فيها ، ولا تحتمِل تأويلاً ألبتة بلفظ مجمل ليس ظاهراً في أنها كانت مفرِدة ، فإن غايَة ما احتجَّ به مَن زعم أنها كانت مُفرِدة ، قولُها ‏:‏ خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا نرى إلا أنَّه الحَجّ ، فيا للّه العجب، أيُظَن بالمتمتِّع أنه خرج لغير الحَجّ ، بل خرج للحجّ متمتعاً ، كما أن المغتسل للجنابة إذا بدأ فتوضأ لا يمتنِعُ أن يقول ‏:‏ خرجتُ لِغسلِ الجنابة ‏؟‏ وصدقت أمُّ المؤمنين رضى اللَّه عنها ، إذ كانت لا ترى إلا أنَّه الحَجُّ حتَّى أحرمت بعُمرة ، بأمره صلى اللَّه عليه وسلم ، وكلامُها يُصَدِّقُ بعضُه بعضاً ‏.‏

وأما قولُها ‏:‏ لبَّينَا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالحجِّ ، فقد قال جابر عنها في ‏(‏ الصحيحين ‏)‏ ‏:‏ إنها أهلَّت بعُمرة ، وكذلك قال طاووس عنها في ‏(‏ صحيح مسلم ‏)‏ ، وكذلك قال مجاهد عنها ، فلو تعارضت الرواياتُ عنها ، فروايةُ الصحابة عنها أولى أن يُؤخذَ بها مِن رواية التابعين ، كيف ولا تعارُض في ذلك البتة ، فإن القائلَ ‏:‏ فعلنا كذا ، يصدق ذلك منه بفعله ، وبفعل أصحابه ‏.‏

ومن العجب أنهم يقولون في قول ابن عمر ‏:‏ تمتَّعَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بالعُمْرة إلى الحَجِّ ، معناه ‏:‏ تمتع أصحابُه ، فأضاف الفعلَ إليه لأمره به ، فهلاَّ قُلتم في قول عائشة ‏:‏ لبَّينا بالحَجِّ ، أن المرادَ به جنسُ الصحابة الَّذين لَبَّوْا بالحجِّ ، وقولها ‏:‏ فعلنا ، كما قالت ‏:‏ خرجنا مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وسافرنا معه ونحوه‏.‏ ويتعينُ قطعاً إن لم تكن هذه الرواية غلطاً أن تُحمل على ذلك للأحاديثِ الصحيحةِ الصريحة ، أنها كانت أحرمت بعُمرة وكيف يُنسب عُروة في ذلك إلى الغلط ، وهم أعلمُ الناس بحديثها ، وكان يسمعُ منها مشافهةً بلا واسِطة ‏.‏

وأما قوله في رواية حماد ‏:‏ حدثنى غيرُ واحد أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لها ‏:‏ ‏(‏ دَعِى عُمْرَتَكِ ‏)‏ فهذا إنما يحتاجُ إلى تعليله ، وردِّه إذا خالف الرواياتِ الثابتة عنها ، فأما إذا وافقها وصدَّقها ، وشهد لها أنها أحرمت بعُمرة ، فهذا يدل على أنه محفوظ ، وأنَّ الذي حدَّث به ضبطه وحفظه ، هذا مع أن حمادَ بن زيد انفرد بهذه الرواية المعلَّلة ، وهى قوله ‏:‏ فحدَّثنى غيرُ واحد ، وخالفه جماعة ، فرووه متصلاً عن عُروة ، عن عائشة ‏.‏ فلو قُدِّرَ التعارضُ ، فالأكثرون أولى بالصواب ، فيا للّه العجب ، كيف يكون تغليطُ أعلم الناسِ بحديثها وهو عُروة في قوله عنها ‏:‏ ‏(‏ وكنت فيمن أهلَّ بعُمْرة ‏)‏ سائغاً بلفظ مجمل محتمل ، ويُقضى به على النص الصحيح الصريح الذي شهد له سياقُ القِصة من وجوه متعددة قد تقدم ذكر بعضها ‏؟‏، فهؤلاء ، أربعة رووا عنها ، أنها أهلَّت بعمرة ‏:‏ جابر ، وعُروة ، وطاووس ، ومجاهد ، فلو كانت روايةُ القاسم ، وعَمرة ، والأسود ، معارضة لرواية هؤلاء ، لكانت روايتُهم أولى بالتقديم لكثرتهم ، ولأن فيهم جابراً ، ولفضل عُروة ، وعلمه بحديث خالته رضى اللَّه عنها ‏.‏

ومن العجب قوله ‏:‏ إن النبى صلى الله عليه وسلم لما أمرها أن تترك الطوافَ ، وتمضىَ على الحَجِّ ، توهَّموا لهذَا أنَّها كانت معتمِرة ، فالنبىُّ صلى الله عليه وسلم إنما أمرها أن تدعَ العُمْرة وتُنشئ إهلالاً بالحَجِّ ، فقال لها ‏:‏ ‏(‏ وأهلِّى بالحَجِّ ‏)‏ ولم يقل ‏:‏ استمرى عليه ، ولا امضى فيه ، وكيف يُغلَّط راوى الأمر بالامتشاط بمجرَّد مخالفته لمذهب الرادِّ ‏؟‏ فأين في كتاب اللَّهِ وسُّـنَّة رسوله ، وإجماع الأُمة ما يُحرِّم على المُحْرِم تسريحَ شعره ، ولا يَسوغ تغليطُ الثقات لنصرة الآراء ، والتقليد ‏.‏ والمُحْرِم وإن أمن من تقطيع الشعر ، لم يُمنع مِن تسريح رأسه ، وإن لم يأمن من سقوط شئ من الشعر بالتسريح ، فهذا المنعُ منه محلُّ نزاع واجتهاد ، والدليل يَفْصِلُ بين المتنازعين ، فإن لم يدل كتاب ولا سُّـنَّة ولا إجماع على منعه ، فهو جائز ‏.‏

فصل

وللناس في هذه العُمرة التي أتت بها عائشةُ من التنعيم أربعةُ مسالك ‏.‏

أحدها ‏:‏ أنها كانت زيادة تطييباً لقلبها وجبراً لها ، وإلا فطوافها وسعيها وقع عن حَجِّها وعُمْرتها ، وكانت متمتعة ، ثم أدخلت الحَجَّ على العُمْرة ، فصارت قارِنة ، وهذا أصحُّ الأقوالِ ، والأحاديثُ لا تدل على غيره ، وهذا مسلك الشافعى وأحمد وغيرهما ‏.‏

المسلك الثانى ‏:‏ أنها لما حاضت ، أمرها أن ترفُضَ عُمْرتَهَا ، وتنتقِلَ عنها إلى حَجٍّ مفرد ، فلما حلَّت من الحَج ، أمرها أن تعتمِر قضاءً لعُمْرتها التي أحرمت بها أولاً ، وهذا مسلكُ أبى حنيفة ومَن تبعه ، وعلى هذا القول ، فهذه العُمْرةُ كانت في حقِّها واجبة ، ولا بُد منها ، وعلى القول الأول كانت جائزة ، وكل متمتعة حاضت ولم يمكنها الطوافُ قبل التعريف ، فهى على هذين القولين ، إما أن تُدْخِلَ الحَجَّ على العُمْرة ، وتصيرَ قارنة ، وإما أن تنتقلَ عن العُمْرة إلى الحَجِّ ، وتصيرَ مفرِدة ، وتقضى العُمْرة ‏.‏

المسلك الثالث ‏:‏ أنها لما قرنت ، لم يكن بُدٌّ من أن تأتىَ بعُمْرة مفردة ، لأن عُمرة القارن لا تُجزئ عن عُمْرة الإسلام ، وهذا أحد الروايتين عن أحمد ‏.‏

المسلك الرابع ‏:‏ أنها كانت مُفرِدة ، وإنما امتنعت من طوافِ القُدوم لأجل الحيض ، واستمرت على الإفراد حتى طهُرت ، وقضت الحَجَّ وهذه العُمْرةُ هي عُمْرة الإسلام ، وهذا مسلك القاضى إسماعيل بن إسحاق وغيره من المالكية، ولا يخفى ما في هذا المسلك مِن الضعف ، بل هو أضعفُ المسالك في الحديث‏.‏

وحديث عائشة هذا ، يؤخذ منه أصول عظيمة من أصول المناسك ‏:‏

أحدها ‏:‏ اكتفاء القارِن بطواف واحد وسعى واحد ‏.‏

الثانى ‏:‏ سقوطُ طوافِ القدوم عن الحائض ، كما أن حديثَ صفيَّة زوج النبى صلى الله عليه وسلم أصل في سُقوط طواف الوداع عنها ‏.‏

الثالث ‏:‏ أن إدخالَ الحجِّ على العُمْرة للحائض جائز ، كما يجوز للطاهر ، وأولى ، لأنها معذورة محتاجة إلى ذلك ‏.‏

الرابع ‏:‏ أن الحائضَ تفعل أفعال الحجِّ كلَّها ، إلا أنها لا تطوفُ بالبيت ‏.‏

الخامس ‏:‏ أن التنعيم مِن الحِلِّ ‏.‏

السادس ‏:‏ جوازُ عُمْرتين في سنة واحدة ، بل في شهر واحد ‏.‏

السابع ‏:‏ أن المشروعَ في حق المتمتِّع إذا لم يأمنِ الفوات أن يُدْخِلَ الحجَّ على العُمْرة ، وحديث عائشة أصل فيه ‏.‏

الثامن ‏:‏ أنه أصل في العُمْرة المكية ، وليس مع مَن يستحبُّها غيره ، فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يعتمر هو ولا أحد ممن حَجَّ معه من مكة خارجاً منها إلا عائشةَ وحدها ، فجعل أصحابُ العُمْرة المكية قصة عائشة أصلاً لقولهم ، ولا دلالة لهم فيها ، فإن عُمْرتها إما أن تكون قضاءًَ للعُمْرة المرفوضة عند مَن يقول ‏:‏ إنها رفضتها ، فهى واجبة قضاءً لها ، أو تكون زيادة محضة ، وتطييباً لقلبها عند مَن يقول ‏:‏ إنها كانت قارِنة ، وأن طوافها وسعيها أجزأها عن حَجِّها وعُمْرتها ‏.‏ واللَّه أعلم ‏.‏

فصل

وأما كونُ عُمرتها تلك مجزئةً عن عُمرة الإسلام ، ففيه قولان للفقهاء ، وهما روايتان عن أحمد ، والذين قالوا ‏:‏ لا تُجزئ ، قالوا ‏:‏ العُمْرةُ المشروعة التي شرعها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وفعلها نوعان لا ثالثَ لهما ‏:‏ عُمرة التمتع وهى التي أذن فيها عند الميقات ، وندب إليها في أثناء الطريق ، وأوجبها على مَن لم يَسُقِ الهَدْىَ عند الصفا والمروة ، الثانية ‏:‏ العُمْرة المفردة التي يُنشأ لها سفر ، كعُمَره المتقدِّمة ، ولم يُشرع عُمْرة مفردة غير هاتين ، وفى كلتيهما المعتمِر داخل إلى مكة ، وأما عُمْرة الخارج إلى أدنى الحِلِّ ، فلم تُشرع ، وأما عُمرة عائشة ، فكانت زيارة محضة ، وإلا فعُمرة قِرانها قد أجزأت عنها بنصِّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وهذا دليل على أن عُمْرة القارِن تُجزئ عن عُمْرة الإسلام ، وهذا هو الصواب المقطوع به ، فإن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال لعائشة ‏:‏ ‏(‏ يَسَعُكِ طَوافُكِ لحجِّكِ وعُمرتِكِ ‏)‏ وفى لفظ ‏:‏ ‏(‏ يجزئك ‏)‏ وفى لفظ ‏:‏ ‏(‏ يَكْفِيك ‏)‏ ‏.‏ وقال ‏:‏ ‏(‏ دخلتِ العُمرةُ في الحجِّ إلى يوم القِيامَة ‏)‏ وأمر كلَّ مَن ساق الهَدْى أن يقرِنَ بين الحَجِّ والعُمْرة ، ولم يأمر أحداً ممن قرن معه وساق الهَدْى بعُمْرة أخرى غير عُمْرة القِران ، فصحَّ إجزاء عُمرة القارن عن عُمرة الإسلام قطعاً ، وباللَّه التوفيق ‏.‏

فصل

وأما موضُع حيضِها، فهو بِسَرِفَ بلا ريب، وموضعُ طُهرها قد اختُلِف فيه، فقيل‏:‏بعرفة، هكذا روى مجاهد عنها ،وروى عُروة عنها أنها أظلّها يومُ عرفة وهى حائض ولا تنافى بينهما ،والحديثان صحيحان، وقد حملهما ابنُ حزم على معنيين، فطُهْر عرفة ‏:‏ هو الاغتسال للوقوف بها عنده، قال ‏:‏ لأنها قالت‏:‏ تطهَّرتُ بعرفة ، والتطهر غيرُ الطُهرِ ، قال ‏:‏ وقد ذكر القاسم يوم طُهرها، أنه يوم النحر، وحديثُه في ‏(‏ صحيح مسلم ‏)‏ ‏.‏ قال ‏:‏ وقد اتفق القاسمُ وعروةُ على أنها كانت يومَ عرفة حائضاً، وهما أقربُ الناس منها، وقد روى أبو داود ‏:‏ حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عنها‏:‏ خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مُوافين هلال ذى الحِجَّة‏.‏‏.‏‏.‏فذكرت الحديث، وفيه ‏:‏ فلما كانت ليلةُ البطحاء، طَهُرَتْ عائِشةُ ،وهذا إسناد صحيح‏.‏ لكن قال ابنُ حزم ‏:‏ إنه حديث منكر، مخالف لما روى هؤلاء كلهم عنها ، وهو قوله ‏:‏ إنها طَهُرت ليلةَ البطحاء، وليلةُ البطحاء كانت بعد يومِ النحر بأربع ليال،وهذا محالٌ إلا أننا لما تدبرنا وجدنا هذه اللفظة ليست مِن كلام عائشة، فسقط التعلُّق بها، لأنها ممن دون عائشة، وهى أعلمُ بنفسها، قال‏:‏ وقد روى حديث حماد بن سلمة هذا وهيبُ بن خالد، وحماد بن زيد، فلم يذكرا هذه اللفظة‏.‏

قلت ‏:‏ يتعين تقديمُ حديث حمَّاد بن زيد ومَن معه على حديث حمَّاد بن سلمة لوجوه ‏:‏

أحدها ‏:‏ أنه أحفظُ وأثبت من حمَّاد بن سلمة ‏.‏

الثانى ‏:‏ أن حديثَهم فيه إخبارُها عن نفسها ، وحديثه فيه الإخبار عنها ‏.‏

الثالث ‏:‏ أن الزهرى روى عن عُروة عنها الحديثَ ، وفيه ‏:‏ فلم أزل حائضاً حتى يومُ عرفة ، وهذه الغاية هي التي بيَّنها مجاهد والقاسم عنها ، لكن قال مجاهد عنها ‏:‏ فتطهرت بعرفة ، والقاسم قال ‏:‏ يوم النحر ‏.‏